النزعة الاجتماعية المحافِظة المبالغ فيها تسهم في تحويل الكثير من التصرفات التي تُعتبر في ذاتها أو في مجتمعات أخرى طبيعية وعادية إلى فضائح وجرائم أخلاقية في مجتمعاتنا. والمشكلة في وعينا المحافِظ أنه لا يتعامل مع المحافَظة السلوكية والتمسّك بالعادات والآداب كخيار شخصي أو أسري؛ ولكنه يسبغ عليها طابعا وصائيا ويجعلها سوطا مسلطا على ظهور الآخرين، فينصّب كل واحد منا نفسه وصيا على القيم وحاميا للأخلاق وسلامة آداب المجتمع ومسؤولا عن حراسة الفضيلة الجمعية، كما يمنح نفسه حق محاسبة الآخرين على أفعالهم وإصدار الأحكام عليهم بالوصم والإقصاء والاستباحة والعزل والاستبعاد. وتعتبر جرائم الشرف وغسل العار انعكاسا لهذه النزعات الثلاث: النزعة المحافِظة المتطرفة التي تجمع بين الانغلاق التقــاليدي الذكوري والعقــلية الدينية الأصولية التحريمية، والنزعة الوصائية الأخلاقوية التي تُدجج أصحابها بالحق في ملاحقة الآخرين ومساءلتهم عن تصرفاتهم، والنزعة الفضائحية المدمّرة التي تلاحق الضحايا بعد إدانتهم بالخروج على النظام الاجتماعي. ولهذه النزعة الفضائحية دور في دفع أفراد في المجتمع إلى الانتحار المباشر أو عبر المشاركة في أعمال إرهابية، إذ يرى باحثون أن محاولة غسل العار الشخصي والتخلص من مشاعر الإثم والانكسار والفضيحة قد تدفع بعض الشباب إلى الاستجابة لدعاية الجماعات الجهادية والإقدام على تنفيذ عمليات انتحارية في محاولة للتطهّر من تاريخهم الجنسي المدان من وجهة نظر الدين والمجتمع، وسعيا للتكفير عن خطايا الاستغراق في الملذات المحرمة والعلاقات الجنسية غير المشروعة.أحمد عصيد: النزعة الفضائحية هي طريقة تعويض نفسية هدفها تلطيخ سمعة الغير لأجل ادعاء الطهرية الغوغائية تكون الفضيحة فضيحة لأن المجتمع يريد لها أن تكون فضيحة. ويمارس الخطاب الغوغائي في مواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في تحويل الخصوصيات الشخصية إلى فضائح واستباحة كرامة وسمعة أصحابها. ويبقى الصوت الغوغائي هو الأعلى لأن الظاهرة الغوغائية مرعيّة أولا من القوى السياسية التحاصصية التي تستثمر في الهشاشة والانفعالية وتحتاج الغوغائية في التحشيد الطائفي والانتخابي. والغوغائية محتضَنة من النخب الدينية التي تعوّل عليها في إسناد مشروع الظلامية الأصولية في المجتمع فهي الرافعة الرئيسة للفكر الديني والمذهبي الأصولي، ويتم التماهي مع هذه الظاهرة إعلاميا لأن وسائل الإعلام تعتمد بصورة أساسية على النزعة الغوغائية في أوساط المتلقين والتي تصنع لها الهالة والصخب في المجتمع. وسيستمر الخطاب الغوغائي الرثّ في انتهاك الخصوصيات والاعتداء على الحريات الخاصة والعامة وممارسة التكفير والتسقيط الأخلاقي والإقصاء والتمييز العنصري والديني والجهوي، ما دام النظام الاجتماعي بسلطاته الحزبية والدينية والإعلامية يريد استخدام الغوغائية كرأس حربة في حماية النظام وتراتبياته وامتيازاته. كما أن النخب السياسية نفسها تلجأ إلى النهج الفضائحي في تسقيط الخصوم واغتيال شخصياتهم وتدمير سمعتهم. وتستخدم ثقافة “التسريبات الإعلامية” والكاميرات السرية أو اختراق الاتصالات في فضح ما يقوله أو يفعله المنافسون السياسيون، في سلوك مخابراتي مستهلك ومنقرض، ما يدل على خواء سياسي مريع ونقص في المهارات السياسية وتنافس غير شريف وسقوط أخلاقي صريح. وعندما يجعل الخطاب الديني من الجنس والحجاب والفصل بين الجنسين شغله الشاغل فإنه يشيع مناخا من التشنج والاحتقان الجنسي في المجتمع، ويسهم في تصوير كل ما له علاقة بالجنس بأنه جريمة تستوجب الكشف والفضح والإدانة والعقاب. وتتضح لنا هنا ازدواجية الخطاب الديني الذي يتطرف في التأثيم الجنسي وتعميق إحساس الأفراد والمجتمع بالذنب والانكسار حيال الجنس باعتباره خطيئة كبرى تستوجب عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة، والترهيب من أخطار العلاقة بين الرجل والمرأة والجنس خارج إطار الزواج، وردّ كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية إلى ما يعتبره انفلاتا وإباحية في العلاقات الجنسية في المجتمع؛ ثم بعد ذلك يطالب المتلقين بالستر على المتورطين في هذه الأفعال وعدم فضحهم! أزمات بالجملة إن كثرة الحديث عن الفضيحة الجنسية تعني أننا في اللاوعي لا نعتبرها فضيحة بل نعتبرها شيئا طبيعيا ومألوفا لدينا وأننا لا نسخر من الفعل نفسه، ولكن من انكشاف أمر الفاعل. وهذا يعني وجود احتمالية كبيرة أننا جميعا على الأغلب نفعل في السر أشياء مثل ما فعله الشخص المفضوح أو أسوأ، ولكننا نأخذ بمستلزمات الحيطة والحذر كي لا ينكشف أمرنا! ومن الأمثلة على ذلك الكراهية الشديدة للمثليين وتسميتهم بـ”الشاذين جنسيا”، في حين أن اهتمامنا المفرط بسلوكهم وبإدانتهم يشي بأن ما يفعلونه ليس شاذا لدينا في الحقيقة بل هو مألوف لدى الوعي الجمعي وأن المشكلة مع المثليين قد تكون في أنهم أخرجوا ذلك للعلن ومارسوا الرغبة المحرمة التي يخشى آخرون الإفصاح عنها! كما أن القسوة الفظيعة على المرأة “الزانية” إلى حد الرجم بالحجارة حتى الموت ليس لها من تفسير سوى كراهية تلك المرأة لأنها زنت مع غيرنا ولم تفعل ذلك معنا!الخطاب الغوغائي في مواقع التواصل الاجتماعي يمارس دورا كبيرا في تحويل الخصوصيات الشخصية إلى فضائح واستباحة كرامة وسمعة أصحابها ليست الصدمة في انتشار فيديو لشخص في وضع مُخلّ؛ ولكن الصدمة الحقيقية أن نكتشف من الخطاب الفضائحي أن هذه الممارسات المخلّة معروفة ومألوفة لدى عدد غير قليل من الجمهور ومع ذلك يستمرون في التشهير بمرتكبها وإدانته! كيف تكون الازدواجية إذن؟، وكيف يكون الفصام؟ ويمكن أن تسعفنا هنا مقاربة الكاتب المغربي أحمد عصيد في فهم هذا التناقض الاجتماعي في بعديه النفسي والثقافي، حيث يقول إن هذه الظاهرة تعكس صورة مجتمع يعاني من تأخّر تاريخي، ويعيش على التستّر على طابوهاته (محرماته)، حيث تصبح النزعة الفضائحية نوعا من استعراض المستور بوصفه عيوبا ومثالب خاصة بالآخرين. وهي طريقة تعويض نفسية تهدف من خلال تلطيخ سمعة الغير إلى ادعاء الطهرية، كما لو أن كل واحد يقول “أنظروا إلى فضيحة فلان، أما أنا فبعيد عن هذا المصير، إنني طاهر ونظيف”. الجنس بحد ذاته ليس فضيحة، سواء كان في إطار الزواج أو خارجه، وسواء كان بالشكل المشروع أو المنبوذ اجتماعيا، ولكنه يتحول إلى عمل مدان وفضيحة فعلية بوجود قرائن أخرى مثل العنف أو الكذب أو التضليل، أو الخيانة الزوجية أو المهنية أو الاجتماعية، أو الاستغلال أو الاعتداء على حقوق وحريات وخصوصيات الشريك أو الآخرين. وبالتالي لا تكون المشكلة في ممارسة شاب وفتاة للجنس خارج إطار الزواج، سواء اتفقنا ثقافيا ودينيا مع خيارهما أم رفضناه، ولكنها في التطفل عليهما وانتهاك خصوصيتهما والتشهير بهما. ومن مفارقات النهج الفضائحي أن عملية الفضح والتشهير تكون أكثر قبحا وبشاعة من الفعل المفضوح مهما كان شنيعا أو مدانا. والفاضحون يقدّمون عن أنفسهم صورة أكثر رخصا وضحالة من المفضوحين، فالفضائحية، ولكونها تتناقض مع الحس السليم، تأتي بنتائج عكسية فتجعل المتلقين يدينون الفاضح ويتعاطفون مع المفضوح. وتعكس الفضائحية المستشرية حاليا في الفضاء الافتراضي العراقي مثلا الأزمات الثقافية والاجتماعية التي تتجلى إحداها في شيوع النزعة العشائرية التي تجعل الأفراد يدفعون ثمن فضيحة مفترضة منسوبة إلى أحد أفراد عشيرتهم دون أن يكون لهم أي ذنب، ما يعني أن الظلم والقسوة والعدوانية والتعسّف تشكّل أسباب الفضائحية ونتائجها في آن معا. وليست الفضائحية الجنسية في مجتمعاتنا، بما هي أزمة ثقافية وقيمية، سوى جزء من الأزمة المركبة الأكبر وهي الأزمة الجنسية المتمثلة في الهياج الجنسي المفرط المعبّر عن عدم إشباع جنسي حقيقي والذي يراه الباحثون انعكاسا لمتوالية من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية المعقدة والمتشابكة والمتداخلة التي تضغط على الفرد وتحرمه من إشباع حاجاته الإنسانية بصورة طبيعية. كاتب عراقي
مشاركة :