فنان عراقي يستلهم تقنية حديثة تدمج الرسم في النحتلا يمكن اختزال التقدم في العمران المادي والتحديث الظاهري، فالروح الثقافية والفنية للمجتمعات هي ما يصنع النهضة والحداثة الحقيقيتين، والإبداع الفني في الرسم والنحت والتصميم رافعة للتغيير الحضاري، إذ ينعكس تأثير اللغة اللونية والتشكيلية على سلوك الإنسان ووعيه الثقافي والقيمي، فالذائقة الجمالية منظومة متكاملة من الأحاسيس البصرية والعقلية والروحية، تتفاعل مع الفنون المرئية بأنواعها التشكيلية والتعبيرية والتطبيقية في عملية جدلية منتجة للجمال الفني الذي يراه الفيلسوف الألماني هيغل أرقى من الجمال الطبيعي، لأن الجمال عنده “فكرة موجودة في رأس الإنسان” يتدخل الوعي والإحساس في إدراكها.العرب همام طه [نُشر في 2017/08/18، العدد: 10726، ص(17)]ما بعد المفاهيمية يُعد سيروان شاكر من أبرز رواد الحركة التشكيلية في كردستان العراق، ولد في مدينة عقرة بمحافظة دهوك، واستوحى معمارها وسفوحها ووديانها في أعماله، إذ يمكن استشعار تأثير الطبيعة المتعرجة وثرائها الثقافي على البنية الجمالية لرسالة شاكر التعبيرية، “العرب” التقت شاكر فكان هذا الحوار حول التقنية الجديدة التي ابتكرها في استنطاق قماش لوحاته عبر الدمج التشكيلي بين الرسم والنحت. ويقول الفنان التشكيلي العراقي لـ”العرب” إن “الفن يؤدي دورا أساسيا في انبثاق المجتمع المثقف والمتحضر، لأن الإبداع الجمالي هو الحصيلة الأولية للتبلور العاطفي والوجداني للإنسان ونمو مشاعره من حب وكره ولذة وألم وبهجة وحزن، أما الفكر والمعرفة فهما حصيلة تالية يفرزها التفتح العقلي والفلسفي وأسئلته وسجالاته”. ودرس سيروان شاكر ببغداد وجاب بمعارضه العالم، وهو معروف بتفضيله للألوان الزيتية واعتماده التدرّج والتموّج اللونيّيْن كلغة تشكيلية تستلهم جمالية البيئة الجبلية لتنفتح لونيا وتعبيريا على آفاق كونية. ويمارس شاكر الرسم والتأليف والنقد والتدريس، ويسعى في مشروعه الفني إلى التجديد المستمر وكسر النمطية والركود في العمل التشكيلي محلقا في آفاق اللامألوف عبر خلق مسارات مغايرة ومتمردة تستمد روحيتها من إشراقات فلسفية وتأملات وجدانية يراها أساسية في إثراء الرسالة التشكيلية، أما مؤلفاته فتهدف إلى التعشيق بين الحركة الفنية والنهضة الثقافية محاولا إضفاء لمسة من الوعي الجمالي على مفاهيم التغيير والتنوير، وصدر له كتاب “كردستان بين فلسفة الفن والفكر المعاصر” و”موسوعة المبدعين”، وينجز حاليا كتاب “فلسفة الحس”. يؤمن شاكر بحتمية التغيير، فـ”التغيير هو وحده الأبدي الدائم الخالد”، كما يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور، ويحدد ضيفنا أفق التغيير في الفن التشكيلي بتطوير خطابه الجمالي إلى مستوى التأليف النغمي، بمعنى أن يتسامى العمل الفني إلى مستوى الموسيقى باعتبارها أرفع أشكال الفن وهي لغة عالمية تمزج الثقافة بالمعرفة والفلسفة بالفن والنغم بالمعنى والحس بالروح، وهو ما دعا إليه شوبنهاور في قوله “كل الفنون يجب أن ترتقي إلى عالم الموسيقى”.سيروان شاكر: اللوحة المتعرجة هي مزاوجة تشكيلية بين الرسم والنحت وعلى طريق التغيير والتجديد يحاول سيروان شاكر في أعماله تعميق الرؤية الجمالية في العمل التشكيلي وتغليبها على “النزعة المفاهيمية” التي تعطي الأولوية للفكرة والمعنى على حساب الأسلوب والشكل الجماليين، يقول “ثالوث الخلق الفني هو الجمال والتعبير والإبداع، والجمال هو الذي يحقق الإبداع والتعبير، فإذا فقدناه فقدناهما، ولذلك أسعى في لوحاتي إلى تعظيم النزعة الجمالية وتغليبها بشكل مطلق، لأن الجمال هو الفكرة والمفهوم اللذين أصبو إليهما”. ولتحقيق رؤيته التجديدية سعى سيروان شاكر إلى تغيير مفاهيم أسلوبية وتقنيات تقليدية في الفن التشكيلي عبر التمرد على روتينية الرسم على الأسطح المستوية منتقلا إلى اشتغال تشكيلي جديد ومدرسة فنية يعمل على التأسيس لهما من خلال منجزه الراهن، مجسدا ذلك في تقنية “اللوحة المتعرجة” وهي مزاوجة تشكيلية بين الرسم والنحت، رسالتها التجديد والتغيير في الجمالية التشكيلية وفق انبعاثات تلقائية للروح الإبداعية لدى الفنان، وتعكس استنطاقا جماليا للقماش يهدف إلى تعميق البلاغة الإيحائية والرمزية للوحة وإثارة التساؤلات في ذائقة المتلقي. وتقوم التقنية الجديدة التي ابتكرها شاكر على الدمج بين الرسم والنحت في لوحات ذات طابع متعرّج وتموّجات ناطقة، حيث لا يعتمد الفنان على الألوان فقط في الاتصال التشكيلي وإنما يُخرج القماش من سلبيته ليجعله مشاركا في التعبير الجمالي من خلال البروزات والانخفاضات والتموجات، إذ يعتقد التشكيلي العراقي أن الفن عملية ذاتية تنبثق عن وجدان الفنان وتجلياته الروحية والفكرية التي تسعى للإفصاح عن نفسها في صورة توليفات وتكوينات جديدة تستلهم مخزونه البصري وذخيرته الجمالية، بحيث يتخلّق التغيير في عقل وروح الفنان فيترك بالمحصلة تأثيرا حقيقيا وانجذابا لدى المتلقي يتجلى في تحفيز ذائقته على طرح تساؤلات حول اللوحة ومضمونها وإيحاءاتها. وهذه التساؤلات في حد ذاتها، وفق رؤية شاكر، تعني إنتاج الفنان لشيء جديد وثوري وأنه ألقى حجرا في المياه الراكدة، فالإبداع عنده هو انفعال عاطفي وغريزي ينبع من قلق جمالي يعتري الفنان فيفجره إلى العالم الواقعي في صيغ خيالية وغرائبية مؤطرة في أشكال جمالية تثير الجدل وتدخل في صراع مع الواقع وتناقضاته. ويأتي اجتراح شاكر لتقنية اللوحة المتعرجة أو المجسمة في سياق مشروعه لتنويع وسائل التعبير الجمالي وإدخال خامات جديدة إلى البنية التشكيلية في مزاوجة بين الاتجاهين التأملي والمفاهيمي، سعيا للتحرر من سلطة السائد وسطوة المعهود في كلاسيكيات التشكيل. ويمكننا هنا أن نصف اتجاه سيروان شاكر بأنه يعكس تيار “ما بعد المفاهيمية” في الفن التشكيلي والذي يبدو أكثر تواؤما مع عصر العولمة والتحولات الثقافية الجارية في العالم والتثاقف بين الحضارات، حيث لا يتجاهل هذا التيار الفكرة في العمل الفني، لكنه يحوّل الشكل إلى فكرة، أي أنه يجعل “الوسيلة هي الرسالة”، كما قال ماكلوهان، فيصير الشكل هو الفكرة والجمال هو الوظيفة.
مشاركة :