أكتب اليوم من بلاد الأوروبيين الجديدة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية التي استعمروها من سكانها الأصليين بعد صراع طويل لا يختلف كثيراً عن النصف الشمالي من الكرة الأرضية، عن أمريكا. أكتب من سيدني أستراليا، أول منطقة نزلها الإنجليز واستولوا عليها من الغاديغال Gadigal، سكان المنطقة الذين سكنوها من سنوات أقلها 15000 سنة وأكثرها 50000 سنة. ويذكر الأستراليون في متحف الصخور (Rocks) أن العرب والصينيين والهنود قد يكونون أول من وصل إلى أستراليا، بل إن آثاراً لعملة إسلامية عثر عليها في إحدى جزر أستراليا تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، أي مئتي عام قبل وصول الإنجليز تعود إلى مملكة كلوة الشرق إفريقية، لكن الإنجليز منذ أعلنوا "اكتشافهم لها" عام 1770 ومنذ وصول جيمس كوك إليها أحد أيام عام 1788 ليعلن احتلال بريطانيا لها في خضم سباق وصراع الدول الأوروبية في احتلال واستعمار الأراضي القديمة والجديدة. فتحولت القارة الجديدة إلى أرض المنفيين من سجناء بريطانيا الذين لا يتوفر لهم مكان في السجون البريطانية على الأرض الأم، وبعد أن أنهت الثورة الأمريكية استخدام بريطانيا للبلاد الجديدة الشمالية منفى لسجنائها، أصبحت أستراليا البديل لذلك، ولفترة طويلة كان عدد المحكومين المقيمين في أستراليا أكبر من الأحرار، حتى أخذ الميزان يتحول بعد حوالي قرن من الزمان والمزيد من المهاجرين وصلوها لأغراض مختلفة وفي فترات زمنية مختلفة. وعشيرة الغاديغال هي واحدة من 29 عشيرة تقطن سيدني وأطرافها من بورت جاكسون إلى حد غير معروف جنوباً، وتنتمي إلى شعب الإيورا Eora Nation. وقد كانت عشيرة أليفة، استقبلت الإنجليز بترحاب حتى أخذ الإنجليز ينافحونهم في مصادر رزقهم. وقد استمرت إقامة الإيورا في سيدني وعبر السنوات تطورت مشاركتهم ومطالباتهم للاعتراف بتاريخهم وحقوقهم وتراثهم الذي نجحوا في إدخاله في المقررات الدراسية والرحلات السياحية والمتاحف التاريخية، وإن كان يتبقى الكثير. ويبلغ عدد السكان الأصليين 1% من عدد سكان أستراليا البالغ 22 مليون نسمة. والعجيب في أمر هذه الدولة النائية التي تتبع العالم الغربي اقتصاداً وسياسة وثقافة، والتي لا يعود تاريخها لأكثر من مئتي عام، قد خلقت من هذا الماضي واقعاً تعتز وتفتخر به، ليس على المستوى الحضاري المادي فحسب بل وعلى المستوى التاريخي والثقافي أيضاً. فقصة الاستيطان والعلاقة بالسكان الأصليين قصة مهمة للوعي الأسترالي الحديث، فضلاً عن العلاقة بمكونات المجتمع التي لم تكن طبيعية في بدايتها ولقرن كامل من قيامها على أساس أنها منفى وليس مركزاً حضارياً. وكانت مهمة السجناء القيام ببناء المدينة، شق طرقاتها وتمهيدها، بناء بيوتها وكنائسها، أسواقها ومخابزها إلخ. وكانت أكثر هذه القصص إثارة للفضول تتعلق بصراع دخلت فيه سيدني في بدايات السبعينات مع حدوث طفرة معمارية بها أخذ المقاولون والمستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة يطرحون مشاريع تطويرية ضخمة لواجهة المدينة البحرية وما يليها تقوم على أساس إزالة مساحات شاسعة من المباني القديمة والصخور التي تكون واجهة المدينة الشمالية و"تطويرها" معمارياً، مع التأمل في كلمة "التطوير" التي تحمل إيحاءات سلبية للبعض وإيجابية للبعض الآخر، اعتماداً على مدخل كل شخص. وأصبح هذا التطوير صراعاً عندما عارض مجموعة من النشطاء الحقوقيين والمهتمين بالبيئة وبالتاريخ والآثار والثقافة والنقابيين وعدد من السياسيين وسكان المنطقة، ليرفضوا الإزالة التي كانت مزمعة لمنطقة الصخور. ونجحت مؤسسات المجتمع المدني بعد مقاومة طويلة وشرسة من قبل الشركات في أن تحصل على مطالبها لاسيما عندما تغيرت الحكومة آنذاك. كل هذا التاريخ كان مفصلاً في كتاب lonely planet الذي لا غنى عنه لأي مسافر رحالة، ثم كانت التفاصيل الأوفى على الطبيعة عندما وصلنا إلى منطقة الصخور Rocks وزرنا متحف الروكس الذي هو عبارة عن بيت قديم يعود للقرن التاسع عشر ومبنى للمستودعات من فترة أحدث، وقد حولوا كل ما يتعلق بذلك الحي ليوثق في هذا المتحف. وكان جزء كبير من المتحف مخصصاً للحديث عن هذه المعركة والنجاح الذي حققته حملة النشطاء مدعمة بالصور والفيديو الوثائقي وصور الجرائد. بالإضافة إلى كل صغيرة وكبيرة تركها المستعمرون أو السكان الأصليون أو السجناء من وثائق لتوضع في هذا المتحف الصغير. وللحديث بقية.
مشاركة :