من حديث أستراليا: بريسبين والمزاوجة الإبداعية - د.هتون أجواد الفاسي

  • 8/10/2014
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

تناولتُ في مقالتي السابقة حديثاً أولياً عن تجربة سيدني-أستراليا في الحفاظ على تراثها الحديث جداً (مئتي عام) بعد صراع مع أهل العقار والتطوير في بلد لا يحتاج لهذا التمدد العمودي وهو قارة تبلغ مساحتها مساحة السعودية ست مرات بعدد سكان لا يتجاوز ال 22 مليونا، أي عدد السعوديين من دون الأجانب. ثم تناولت الحديث بالتحديد عن منطقة الصخور the Rocks في سيدني، وهي أقدم منطقة سكنية للأوروبيين الذين استعمروا القارة بعد إبادة أكثر من نصف سكانها الذين يكونون واحدا في المائة من سكانها اليوم أي 200,000 نسمة فقط. ولن أطيل .. الجميل في هذه المدينة في إطار المحافظة على القديم/الهوية في ظل التسارع العمراني للتوسع والاستثمار، هو المزاوجة الإبداعية. وأعيد وأكرر هذه الكلمة «الإبداع» لثقتي بأنها تعبر عن الكثير مما نحتاج إليه في محيطنا الهش إبداعياً. فعلى سبيل المثال تتحول المباني التاريخية فيها إلى فنادق ومتاجر وتفرض الدولة فيها المحافظة على معمارها داخلياً وخارجياً لم يكتف أهل سيدني بذلك، فقد لاحقوا المطورين في أي موقع يريدون به زوالاً وتصدوا لهم بكل الوسائل تظاهراً واعتراضاً في كل القنوات المتاحة والمشروعة لديهم، فكان منها المبنى الذي مررنا عليه صدفة في شارع جورج (الملك) والذي يُدعى مبنى الملكة فكتوريا أو Queen Victoria Building والذي يثير مبناه الضخم ذو القباب الفخمة والنوافذ المزججة بالرسوم الدقيقة الذي يجمع ما بين أساليب القوطي والرومانسي والملكة آن وعصر النهضة وعصر الملكة فكتوريا، الانتباه والإعجاب، لنجده بعد أن دخلناه ذا تاريخ يصل إلى حوالي مئة وخمسة عشر عاماً (1898) أنه قد بُني أساساً كسوق للمأكولات الطازجة Market place على مساحة ضخمة بطول 190 بعرض 30 مترا وبعمل هندسي معماري عالي التقنية وتحول عبر الأعوام إلى أدوار مختلفة، إلا أنه مرة أخرى في السبعينيات كاد أن يُمحى من الوجود ليواكب الأبراج التي بدأت تُبنى حوله، لولا أن قامت حملة مكثفة ضد ذلك ثم أن سخر الله لهم مستثمرا ماليزيا أمينا فضّل الاستثمار في المحافظة على بنائه القديم وتحويله إلى أسواق ومتاحف ومقاه ومطاعم عصرية بالحفاظ على كل مكونات المبنى القديم حتى البلاط والسقوف والزجاج المزين بل والمصعد النحاسي القديم. ولم يقتصر الوعي البيئي والتاريخي مع الحداثة على سيدني بل مرت به مدنها الأخرى الرئيسة كمدينة بريسبين Brisbane، عاصمة إقليم كوينزلاند، شمال شرق أستراليا، الواقعة على نهر باسمها والتي اتجهت اتجاها ً آخر في تعاطيها مع التحديث الذي كاد أن يدمر هويتها الهشة، فاستثمرت في علاقتها بالسكان الأصليين وفي البيئة المحلية وفي الحياة الصحية المتوازنة، فأخضعت جزءاً كبيراً من المدينة لإعادة التأهيل ليكون صديقاً للبيئة عمراناً واستخداماً متمثلاً في جسري مشاة ودراجات وما بينهما بلاد الحدائق Parklands حيث تعجز الكلمات عن وصف الإبداع في استثمار البيئة بأشجارها التي تعود في أجزاء منها إلى غابات الأمطار rain forest لتتحول إلى ممرات مشاة ورياضة وملاعب أطفال مبدعة في تكويناتها وسلامة أطرافها ومكوناتها، وإلى متاحف ومعارض فن ومسرح وأوبرا ومطاعم ومقاه وكلية للسياحة والضيافة من جامعة جريفيث. وأحد الجسرين ذو الاسم المحلي كوريلبا Kurilpa، الذي افتتح رسميا في أكتوبر 2009، يعتبر أحد أهم الجسور عالمياً التي تعتمد في هندستها على ال tensegrity والتي تعني التصميم المعماري المعتمد على شبكة من البنى المتوازنة والمتعاكسة على نسق الخلية الحية والتي تتواصل فيما بينها بأسلاك متقاطعة تعطيها خفة وقوة، ويعني اسمه "المكان حيث جرذان الماء" وهو اسم يعود إلى سكان منطقة بريسبين المحليين ويرتبط بأسطورة تربط بين النهر والحيوانات الأسطورية كالثعبان المائي الذي كون النهر وبقية الحيوانات التي كونت جبال الضفة الأخرى والتي ترمز في النهاية إلى ترابط الضفتين مستكملة المعنى الذي يعكسه الجسر المقابل والذي يسبقه بثماني سنوات وأطلق عليه اسم النية الحسنة Goodwill bridge في 2001 حاجزاً منطقة الضفة الجنوبية والحي الثقافي والحدائق لبريسبين South Bank Parklands فيما بينهما. وكانت الضفة الجنوبية قد طُورت أساساً عام 1988 لصالح معرض 88 العالمي World Expo 88 الذي استضافته بريسبين لمدة ستة أشهر محتفلة خلاله بسنويتها المئتين، واحتفظت بكثير من مكونات المعرض في الموقع بعد انتهائه، محولةً المدينة وهويتها من مدينة محكومين وخارجين عن القانون وسجانين إلى مركز ثقافي وحضاري وفني عالي المستوى. وبعد أن كانت تستقطب عبر السنين المهاجرين من مستثمري مناجم الذهب وعمال مزارع قصب السكر إلى المهاجرين من أصحاب المهن العالية كالطب والهندسة والفنون والعلوم. ويبزغ فيها فنانون وأدباء من خلفيات عرقية متعددة منها على سبيل الِمثال الأديب والشاعر الأسترالي، المولود في بريسبين، ديفيد معلوف، ذو الأًصل اللبناني، الذي كانت تحتفل المدينة ببلوغه سن الثمانين خلال وجودنا بها، وتعرض أدبه وانعكاسه على الفن والسينما والنحت في معرض خصص له في متحف بريسبين الذي يقع في مقر بلدية المدينة City Hall. والجميل في هذه المدينة في إطار المحافظة على القديم/الهوية في ظل التسارع العمراني للتوسع والاستثمار، هو المزاوجة الإبداعية. وأعيد وأكرر هذه الكلمة "الإبداع" لثقتي بأنها تعبر عن الكثير مما نحتاج إليه في محيطنا الهش إبداعياً. فعلى سبيل المثال تتحول المباني التاريخية فيها إلى فنادق ومتاجر وتفرض الدولة فيها المحافظة على معمارها داخلياً وخارجياً مثل ما حدث مع مبنى وزارة المالية الذي يعود للقرن التاسع عشرTreasury Hotel . وكان من ألطف ما صادفناه أثناء مسيرنا في شارع جورج (الملك) أيضاً، مبنى حديث زجاجي مرتفع منقسم إلى جزئين أو أنهما مبنيان، وبينهما ممر يبلغ حوالي أربعة أمتار أو أكثر لمسافة تمتد بعرض المبنيين، وتتدلى من سقفه أسلاك معلقة ما بينهما محارة مفتوحة وأسفل منها على مستوى الأرض محارة مغلقة، ومن موقعك على الطرف الآخر من الشارع وعندما تنظر إلى المحارة المفتوحة ترى من خلفها قرص ساعة برج كنيسة قديمة يطل من خلف المباني الحديثة مضيئة قلب المحارة على شكل يبدو وكأنها لؤلؤة تطل من بعيد. وكانت هذه قراءة ولدي أجواد عندما نظر إلى هذا التكوين الجمالي المزاوِج والموظِف لهذه المباني التراثية والحديثة بعضها ببعض. * كلمة في الأذن: الوعي أهم مؤشرات التحضر الإنساني. وأكتفي بهذا القدر اليوم من حديث أستراليا، وكل عام وأنتم بخير.

مشاركة :