هذا الموقف يتكرر في نص آخر، إذ يحمل نفس هذه الخصوصية المرتبطة بانكفائها على أنوثتها من دون أي اهتمام لما يجري حولها من أمور أخرى، حيث توجه الشاعرة ريمية خطابها الشعري إلى بنات جنسها اعتماداً على مبدأ الحرص على تحقيق الدفء الإنساني المرتبط بها، غير أنها عكست الموقف المأسوي بصورة حزينة: في الحقيقة يبي ياخدك الحماس ورايحة تتخيلين إنك تضيئين... شمعة وإنك تضيفين... نجمة وإنك تكونين شي. لكن... بعز الحقيقة تبي تهزمك الحقيقة وفي الصحيح... بتزهقين وتتعبين وتيأسين وينكسر حلمك... ويسقط عرضها لمسألة العلاقة مع الرجل بهذه الطريقة الواضحة والمكشوفة يعكس مدى شعورها بقوة صدمة الحياة، وكأنها كتبت هذا النص بطريقة انفعالية لا تريث فيها، وهذا مجرد افتراض غير أنه من الممكن النظر إليه، لأنه ناتج عن موقف صدم الشاعرة بقوة هذا الواقع ومدى إدراكها لهذه الحقيقة، وهذا ما دفعها للنظر إلى الإنسان من هذه الزاوية، من كون المرأة حملاً وديعاً والرجل ما هو إلا وحش كاسر، يريد منها ولا يعطيها. نظرة محمد المرزوقي فيها من العمق الفلسفي للحياة ولعلاقة الإنسان مع هذه الحياة بعدٌ يمنح نصوصه الشعرية مساحة من التفكير والتأمل، وهذا ما عبر عنه بهذا المقطع: الأمل ما هو سوى أضواء وهمية تلطف ظلمة الأعمى وتهدهد له خياله يأسنا ما هو انهزامية، ولكن اعتراف بجوهر الإنسان، ولا جدوى الحياة هذا الكلام يعكس نظرة عميقة لمحتوى الإنسان الفكري والروحي، وفيه محاولة لفهم بعض القضايا التي يعيشها، ومحاولة لمناقشة هذه القضايا ذات الفهم المؤطر الثابت، حيث سعى الشاعر هنا إلى اختراق هذا الصراع الجدلي الممتد والمتناقض عبر حياة الإنسان والتاريخ، للوصول لفهم يرتضيه لنفسه حول الأمل واليأس. لقد رسم لنا صورة لا نمطية للأمل، والذي كان في الغالب «أضواء وهمية» كما يقول ترطب الخيال وتمنح الإنسان فرصة للاسترخاء الذهني والعاطفي للهرب من عبء الحياة الثقيل الملقى على كاهله، كما أنه رسم لنا اليأس بغير صورته النمطية التي تعارف الناس عليها، وأنه نابع من اعتراف بجوهر الأشياء ومقدرة الإنسان على إدراك هذه الحدود، وهذا ما يفسر لنا عمق نظرة المرزوقي للكون والإنسان، ومحاولة التعامل مع الإنسان الكوني في عرف عدد من الفلاسفة كهيغل وغيره عن طريق هذه الزاوية وذلك من حيث اعتبار أن الإنسان كلٌّ واحد ومتجانس وإن اختلفت لديه الظروف لأنه متّحِد في النـزوات والرغبات، والشاعر المرزوقي يريد بلوغ هذه الجوانب المختبئة في النفس البشرية من أجل بعث الروح فيها والحديث معها أو عنها في أيسر الأحوال: من أنت؟ محظور التساؤل حول كنه الذات يا هذا السفيه شخص مختلف عن كل ما حوله من آلاف الوجيه إنسان يجوب الأرض والعالم ولا يلقى شبيه متمرد على العادات والعادات تتمرد عليه هذا السؤال المتواصل «من أنت» مع بداية كل جملة شعرية جاء كحالة استفزاز ورفض للذات، وما يحيط بها من تناقض «متمرد على العادات والعادات تتمرد عليه» وكأنه في دوامة لا تعرف التوقف كحركة متواصلة وتحول لا يؤمن وتطور لا يعترف إلا بالاستمرار. هذا الهاجس الذي لازم الشاعر وانساب في هذا المقطع، يكاد أن يعكس من خلاله الشاعر جدلية التحول الإنساني نحو الأفضل والمأمول في مشهد يؤمن بثقافة الرفض للثابت وهو يتطلع نحو التحول، لقد فتح الشاعر نوافذ الأسئلة المحظورة المرتبطة بالذات للوصول إلى هذه الذات المخبوءة خلف ستار من المحظورات، رغبة منه بالوصول إلى الإنسان الأمثل أو الإنسان الكوني المختلف عن كل الآخرين، الإنسان الذي لا يشبه إلا الإنسان، المادة الخام الأولية، أي الإنسان الكامن في ذات كل واحد منا دون أن نشعر به، وهو الذي قال عنه: «إنسان يجوب الأرض والعالم ولا يلقى شبيه» لقد فتح النوافذ ولم يغلقها، أي لم يسْعَ للوصول إلى أي إجابة لمثل هذه التساؤلات كإشارة إلى أن إنسان هذا العصر محكوم عليه بالعيش خلف قضبان الحيرة وطرح تساؤلات لا يمكن الإجابة عنها. الشاعر سعود الصاعدي الذي يميل إلى التمسك بتعاليم الدين، يرى أن مشكلة الإنسان غير نابعة منه، بقدر أنه يعيش أزمة تتجاوز ذاته لتصل إلى المحيطين من حوله، لهذا كان تصوره للإنسان مرتبطاً بكونه شاعراً بالدرجة الأولى، وهو هنا في هذه النقطة يتقاطع مع كل الشعراء، وحاله كحالهم في هذه المسألة، لكن من حيث كونه رجلاً متدينًا وباعتبار أن الرجل المتدين هذه الأيام أصبح مثارا للشك من الجميع، سواء من سلطة اجتماعية أو من سلطة سياسية، لهذا يعرض هذا التصور كتفريغ نفساني لهذه الحالة، وكإفراز اجتماعي معاكس، أي إنه يتقمص الحالة ونقيضها، وكأنه في صراع جدلي ينطلق من الموجود إلى المجهول، ومن المجهول إلى المجهول، أي أنه لا يريد العودة إلى الموجود, وذلك أنه يسعى إلى افتراض واقعه الخاص به رجل سِلمي والشهادة قسم علمي يعني ما له أي علاقة بالمعارك حتى اسمه ما يدل إلا على لطفه ولينه (فادي أحمد ياسمينة) ما يعرف من الكلام إلا السلام ولا يعرف من الطيور إلا الحمام طيب، مسالم، يذوب من الخجل يكره حدود الليل، ويخاف الظلام المتأمل في هذا الكلام، وبعيدا عن أي محاولة للغوص في هذا المقطع، فإن الشاعر يعرض من الوهلة الأولى بأن هذا الشاب يدرس المواد العلمية أي إنه مرتبط بالغرب باعتبار أن العلم والصناعة والتقنية والتكنولوجيا أمور قادمة إلينا منهم، لا يدرس العلوم الشرقية المهتمة بقضايا الروح والمتصلة بإنسانية الإنسان، فهذا الإنسان الدارس لهذه العلوم شاب حالم وديع في كل شيء حتى في اختيار القدر لاسمه المكون من ثلاثة أسماء (فادي أحمد ياسمينة) وكان (أحمد) وسطاً في هذه الأسماء كدلالة بأن الدين وسط في كل شيء حتى في عملية الأسماء.
مشاركة :