لقد كان الكويتيون يمارسون عملهم بكل استقلالية عن العراق، فهم يدخلون موانئه كأجانب، يحملون العلم الكويتي، ويقدمون إثبات هويتهم من خلال «القول» (تلفظ القاف هنا جيماً مصرية)، الذي يحمل تصريح السفينة وإثبات ملكيتها باسم حاكم الكويت، مع المينافيست الذي يحمل أسماء البحارة، وقائمة محتويات السفينة من البضاعة وتسمى «النول»، وقد كانت تأخذ السلطات العراقية منهم الرسوم الجمركية، وتسمى «المطرحانية»، تأخذها بموجب الأطنان التي تحمل السفينة كنسبة وتناسب، بل كانت السفينة إذا تأخرت هناك عن المدة المقررة تأخذ عليها سلطات الميناء «غرامة»! فكيف بعد هذا كله ومنذ عشرات السنين يدّعي رأس النظام العراقي تبعية الكويت للعراق زوراً وبهتاناً وافتراءً على التاريخ والمنطق؟! الوقفة الثالثة: هي سر النجاح في السفر الشراعي، وكذلك الغوص على اللؤلؤ.. لقد وفق الله تعالى الكويتيين لارتياد البحر سفراً في التجارة بسفنهم الشراعية، أو غوصاً على اللؤلؤ في أعماق الخليج العربي، من خلال عوامل عدة، على رأسها عامل مهم لم يلتفت إليه الكثيرون ألا وهو نفسية البحار الكويتي، الذي لولاه لما كان النوخذة، ولا كانت رحلة السفر أو رحلة الغوص. «لقد كنا نوجه الأوامر (والحديث هنا للنوخذة عيسى عبدالله العثمان رحمه الله)، والأمر سهل ويسير، ولكن من الذي يهب للتنفيذ من دون كلل أو ملل؟ من الذين يتعاونون بكل روح طيبة وهمة عالية؟ إنهم البحرية وهم «اليزوة»، وهم لنا خير عزوة. بارك الله لهم وفيهم وجزاهم عنا وعن الكويت كل خير. فلولاهم بعد الله سبحانه ما نجحت سفراتنا، وهم مخلصون أوفياء لم تحدث منهم شائنة، ولا شانت نفوسهم علينا أو على بعضهم، ولا صدرت منهم كلمة قاصرة أبداً، تجدهم يؤثرون بعضهم ولو كان بهم خصاصة، فإذا حان وقت الصلاة توجهوا إلى الله متوكلين عليه، تاركين الدنيا خلف ظهورهم، وقد استودعوا الله أهلهم وبيوتهم وأولادهم، والله لا تضيع ودائعه. ورغم كل المغريات والخيرات في البلاد المحيطة بهم، كالعراق وإيران أو اليمن أو الهند، وغيرها من البلاد التي كانت فيها الأنهار والمياه والزراعة والخير العميم، والرزق الوفير، والمال الكثير، فإننا لم نسمع بأحدهم قد ترك بلده، بل التزم بها بحلوها ومرِّها وفياً لأهله ووطنه، متحملاً الصعاب وشظف العيش، وقد كان يسافر أحدهم إلى البحر أشهراً عديدة مع نوخذة السفر، يعود بعدها 20 يوماً على الأكثر ليستلمه نوخذة الغوص، وهكذا يظل بعيداً عن أهله أغلب أيام العام، وقد استودع الله دينه وأمانته وخواتيم عمله، واستأمنه أهله وبيته وماله وعياله، متمثلاً قول الله تعالى: «وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (سورة الطلاق، آية 2 و3). يتبع في المقال القادم إن شاء الله. د. عبدالمحسن الجارالله الخرافيajkharafi@yahoo.comwww.ajkharafi.com
مشاركة :