كأنه مقدَّر لوعينا أن يبقى كأرجوحة تتقاذفها الأيدي وتتنقل بها من ملعب إلى آخر حسب الكثافة الجماهيرية، وحسب قوة الوسائط الإعلامية. فمنذ مدة ووعينا لم يزل رهين بعض الوسائط الإعلامية التي عملت -ولا تزال- على تشكيله وفق أهواء القائمين عليها، وبحسب جَلَبة التيار السائد في كل فترة زمنية. كلنا يعلم ما مرت به بلادنا خلال ربع قرن تولَّى من صراعات إيديولوجية وأحداث كانت محصلتها نتائج مؤسفة في الأرواح والممتلكات مما استدعى الوقوف ضدها بكل حزم. ولأن الشجر النافع لا ينمو وحده بل تصحبه شجيرات متسلقة وضارة، فكذلك الحال مع حملات المواجهة والتصدي لأي فكر أو جنوح خارج عن السياق، إذ تصحبها بعض الأقلام النفعية التي لا تسعى في حقيقتها إلى مساندة تلك الحملات والمواجهات لبلوغ غاياتها المثالية بقدر سعيها لتحقيق مآرب خاصة لن تتحقق إلا عن طريق مساندة الحق ظاهريًّا مع اختلاف المقصد. وعودًا إلى ربع القرن المتولِّي وما شهده من أحداث طالت المواطن جسدًا وفكرًا وممتلكاتٍ فقد نشأ على إثر ذلك مصطلحات كان أشهرها ما سُمى بـ"التطرف"، وهو مجاوزة الحد والانحياز لطرف دون آخر، وهذا يقتضي التأييد والمناصرة للطرف المنحاز إليه مهما حمل موقفُه من أخطاء على حساب الطرف الآخر مهما حمل موقفه من صواب. ومع اليقين الجازم بأن التطرف لا يَرتهن لدِين أو جهة بل هو موجود في الأديان كلها وفي الجهات جميعها إلا أن اللافت للنظر أن مصطلح التطرف لدينا تمدد أفقيًّا وأخذ أكبر من حجمه، وكأن المجتمع (كلَّه) يعيش حالة تطرف حادة طالت الصغير والكبير والرجال والنساء والمناهج والمؤسسات الدينية والتعليمية. ربع قرن من الزمان تقضَّى والمجتمع -وبخاصة من ينتسب للتيار الديني والمؤسسات الدينية اسمًا أو رسمًا- يُصبحون ويمسون تحت وصم (التطرف) الذي أصبح سلاحًا يُشهِره عليهم خصومهم تحت أي موقف. ومما زاد حدة الوصم هو (تآزر) أغلب من ينتمي لوسائل الإعلام التقليدية -وقتذاك- على توجيه التُّهم بالتطرف إلى تلك الشريحة (جميعِها) مما جعلها تصل إلى درجة الشك في صدق توجهها وسلامة هدفها نتيجة التيار الجارف من المداد المسكوب، والأصوات الصاخبة التي لا تنفك عن النَّيل منها تحت ذريعة محاربة التطرف. سنوات وسنوات تقضَّت والتُّهَم تُكال جزافًا على المستحِق وغير المستحق حتى بزغ فجر الإعلام الجديد بوسائطه المختلفة مما أوجد مساحة من الحرية ما كانت لتكون لولا ظهوره وفتحه المصاريع للجميع . ظهور الإعلام الجديد كان بمثابة فتح لنوافذ جديدة مضادة للحصون الإعلامية التقليدية التي تحصَّن فيها عدد غير قليل من المضادين وجعلوا منها قاعدة لرمي خصومهم بسهام الوصم بالتطرف والشك والتخوين. هنا أحكَم التيار الآخر قبضته على مفاصل الإعلام الجديد وأخذ يمارس الأدوار نفسها التي مارسها متحصنو الإعلام التقليدي وكأننا في ساحة حرب، تميل الكفة لهؤلاء مرة ولهؤلاء مرة أخرى، حتى وصل الأمر إلى إطلاق التيار الآخر على خصمه مصطلح (التصهيُن). والتصهين في رأي مستحدثِيه من التيار الإسلامي هو موالاة العدو الصهيوني ومناصرته في ممارساته الوحشية ضد الفلسطينيين خاصة والمسلمين والعرب بصفة عامة. نحن إذن إزاء تراشقات فكرية لا تنتهي، محصلتها النهائية تغييب الوعي، وهو ما أوجد حالةً من الانشطار الفكري بين أبناء المجتمع الواحد، مما يوجب على أهل الحل والعقد والرأي والحكمة المسارعة بإيجاد الحلول الناجعة لرتق حالة الانشطار الآخذة بالاتساع قبل حلول ساعة المندم. وبعد.. ألا يستحق وعينا أن نربأ به عن تلك التراشقات الفكرية؟ أليس بمقدور مسيرِي الإعلام بشقيه تطهير وسائلهم من صديد الأقلام المتسلقة حفاظًا على لُحمتنا الوطنية؟ Mashr-26@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (52) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :