بدأ الحديث عن توقعات تراجع أسعار الأراضي والعقارات المبالغ في ارتفاعاتها من بعد تأسيس وزارة الإسكان، أي قبل نحو ثلاثة أعوام من تاريخ اليوم! فيما كان الحديث عن الارتفاعات القياسية في الأسعار، وتسببها في صناعة أزمة اقتصادية وطنية للبلاد والمجتمع، قبل بدء الحديث عن توقعات هبوط الأسعار بنحو ثلاثة أعوام أخرى، وضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للحد منها ومن أخطارها، وهو ما تطرقت إليه العديد من الدراسات والتقارير محليا وخارجيا، كان من أهمها تحليل التقارير السنوية عن الاقتصاد السعودي الصادرة عن صندوق النقد الدولي، وكان من ثمرات تسليط الضوء على هذا الملف العسير، أن تمّ تأسيس وزارة الإسكان. أدون هذه المقدمة لإزالة اللبس القائم لدى أغلب المتحاورين حول السوق العقارية، ولإيضاح القضية بالنسبة للمجتمع السعودي، الذي يراقب ويتابع كل التطورات المتعلقة بهذا الملف كأول اهتمام لديه. الآن؛ 1) ماذا جرى في السوق العقارية طوال الفترة الماضية؟ 2) ما أهم النتائج والتغيرات التي حدثت على السطح؟ 3) ما المتوقع أن يحدث في المستقبل؟ جزء من إجابة السؤال الأول، لا بد أن يدرك ما ذكر في المقدمة، وأن جزءا كبيرا من توقعات بدء انخفاض الأسعار اعتمد على ما صرح به وزير الإسكان بعد تأسيس الوزارة، كان من أهم ما جاء في تصريحه: أن الدولة ستقوم بفرض الرسوم على الأراضي البيضاء، وفرض رسوم إضافية أخرى على الأراضي المطورة داخل النطاق العمراني المشمول بالخدمات البلدية، لتصبح الرسوم المفروضة عليها أكبر! وأن وزارة الإسكان في طريقها لاتخاذ الإجراءات الكافية لمنع تمرير تكلفة تلك الرسوم إلى المشتري التالي، وأن الدولة ستقوم بنزع ملكية الأراضي من ملاكها إذا تأخروا في إعمارها، مع تأكيده ألا نية للدولة لشراء أي أراضٍ من المعروض الراهن في السوق. حينما يقرأ ويستمع الجميع لمثل هذا التصريح الصادر عن المسؤول الأول عن ملف الإسكان، حمل كل هذه الوعود الكبيرة بهدف تصحيح الخلل الجاثم في السوق، كيف ستكون ردة فعل ذوي العلاقة بسوق الأراضي والعقارات وحتى المنتظرين من المواطنين؟ ستتفق توقعات الجميع دون أدنى شك على أن الأوضاع ستتغير، وأن الأسعار لن تبقى على وضعها، وأنها في طريقها للتراجع! فهل هذا ما حدث على أرْض الواقع؟ قبل الإجابة بنعم أو لا؛ يجب أن يُوضَّح جانبان مهمان حدثا فعليا على الأرض. الجانب الأول: أن أيا من تلك الوعود التي أطلقها وزير الإسكان لم ير النور! ورغم قوة تأثيرها حين أُطلقتْ، وتسببها في حدوث ما يشبه الصدمة بالنسبة للأطراف العقارية، إلا أن تلك الوعود ومع مرور الوقت دون أي ظهور لها يذكر من قريب أو بعيد، اتخذ تأثيرها مسارا منحدرا من قوة التأثير في الأسعار إلى أن تلاشى، بل تحول عدم صدورها كما تم الوعد به رسميا إلى عامل سلبي على السوق كما سأوضح في نهاية المقال. الجانب الثاني والأخطر: أن الأطراف الأقوى وصنّاع السوق العقارية ومن يتبعهم من السماسرة والمتاجرين، لجأ بعضهم إلى منع ودفع تحقق التوقعات بتراجع الأسعار إلى "تكثيف" عدد من الأساليب الملتوية، سواء عبر وسائل الإعلام المختلفة، أو عبر ممارسات قامت على التلاعب بالأسعار، وهو ما سبق أن كتبت عنه في وقته في مقالي: تجريم ومعاقبة تضليل المزادات العقارية، عدد الاقتصادية 7152 بتاريخ 11 أيار (مايو) 2013. أكد وقوع هذا التلاعب والممارسات المضللة أخيراً وزير العدل نهاية الأسبوع الماضي، حينما أصدرت الوزارة مؤشراتها العقارية، قائلا: إن الوزارة كشفت قبل أيام العديد من الصفقات الوهمية بمبالغ ضخمة جداً وبفارق غير معقول ولا مقبول، تجاوزت في بعضها إلى 30 ضعفا من قيمتها وفي مدة وجيزة جداً، وأنه تم كشفها بالكامل، ويجري التعامل معها وفق أحكام النظام المتبع في الوزارة. أسهمت هذه الممارسات المضللة في ظل غياب الشفافية والإحصاءات اللازمة، في صناعة "وهم" صلابة الأسعار في السوق العقارية، وأنها لا يمكن أن تتراجع نظير الطلب الكبير على الإسكان، وقد نجحتْ تلك الممارسات في تحقيق أهدافها حتى اليوم، ويمكن القول إنها وصلت إلى نهايتها المحتومة بعد القرارات والتطورات الجديدة التي اتخذتها وزارة العدل، والمنتظر الآن كما سبق الإشارة إليه في المقال الأخير: من يصدر المؤشر العام لأسعار العقار؟ أن تبادر كل من مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات ومؤسسة النقد العربي السعودي إلى سرعة التعاون مع وزارة العدل، لتبدأ الجهتان في النشر المنتظم للمؤشر العام والتفاصيل الأخرى، لقطع دابر تلك المؤامرات والممارسات المخالفة، ولتتضح الصورة الحقيقية لأوضاع السوق دون تزييف. آتي إلى الإجابة عن السؤال الأول: ماذا جرى في السوق العقارية طوال الفترة الماضية؟ ما جرى وفقاً لما تقدم أعلاه، أن الأسعار اهتز عرشها في بداية الفترة، وشهدت السوق ركودا لا يزال مستمرا حتى الآن، لكنها بسبب تأخر الجانب الأول المشار إليه، عادت إلى الانتعاش في الجزء الأخير من الفترة، كل هذا لم يكن أحد يعلم به حينها لغياب الإحصاءات الرسمية. انكشف مستوره بعد قيام وزارة العدل بنشر المؤشرات العقارية، حيث بينت تلك المؤشرات انخفاض مستوى الأسعار لـ 12 مدينة رئيسة خلال 1434 بنحو -28.5 في المائة، لتعود إلى تقليص الخسائر عام 1435 بارتفاعها نحو 8.1 في المائة، كما أظهرت المؤشرات العقارية نفسها طوال 22 شهرا مضت، تحقق الارتفاع في الأسعار لثمانية أشهر، مقابل انخفاضها لـ 14 شهرا، واللافت أن ثلاثة أشهر من أشهر الارتفاع شهدت ارتفاعات قياسية (رجب 1424 بـ38.2 في المائة، والمحرم 1435 بـ 35.7 في المائة، وربيع الأول 1435 بـ31.9 في المائة)، التي قد تدل على ما ذكره وزير العدل في تصريحه الأخير. هل هذا يكفي لحل الأزمة العقارية؟ أي هل يكفي فقط أن تنشر وزارة العدل الحقائق الرقمية للسوق العقارية؟ ليس هذا إلا نصف الطريق من الحل أو أقل من ذلك، فما زالت التطلعات إلى قيام وزارة الإسكان بتنفيذ وعودها التي أطلقها وزيرها في مطلع تولّيه منصبه، وهي الجزء الأهم من الحلول المنتظرة، حتى مع تنفيذ ما أُعلن عنه أخيراً من وزارة الإسكان ببدء تسليم المواطنين للمنتجات الإسكانية الجديدة، كل هذا لا يمثّل وزنا ثقيلا أمام أهمية تلك الوعود الأهم، وأمام ضخامة حجم الأزمة العقارية والإسكانية التي يواجهها اقتصادنا ومجتمعنا. أستكمل مع القارئ الكريم إجابات السؤالين التاليين في المقالات القادمة بمشيئة الله تعالى. والله ولي التوفيق. نقلا عن الاقتصادية
مشاركة :