ابتسمت ابتسامة عريضة، وهي تسأل نفسها بثقة وأنفة، يا إلهي كم أنا جميلة، هذا الجمال يستحق عشق الملايين من الرجال.العرب فدوى البشيري [نُشر في 2017/10/15، العدد: 10782، ص(14)]لوحة: عبدالله بولا أشرق الصبح، أشرقت معه أحلام سرمدية، رفرفت بجناحيها فأصابت قلب هذه الطالبة التي كانت تحمل أفكارا قاتمة عن الرجل الذي لم يجد قط مكانا في قلبها، معتبرة أن الحبّ نسج خيال، وترّهات شعراء، وحكايات أفلام تبدأ بالعشق والمناجاة لتنتهي بمآس تكون ضحيتها تلك الفتاة البريئة التي أعطت كل شيء للرجل، ولم تأخذ منه إلا العار والفضيحة. أفكار مرّت بخيال “أحلام” وهي ترتدي ملابسها استعدادا للقاء هذا الطارق، الذي فتحت له أبواب قلبها دون استئذان، حملت حقيبة يدها، ونظرت طويلا في المرآة تتأمل هذا الوجه الصبوح، وهذه العيون الشاردة، ابتسمت ابتسامة عريضة، وهي تسأل نفسها بثقة وأنفة، يا إلهي كم أنا جميلة هذا الجمال يستحق عشق الملايين من الرجال. هرولت “أحلام” مسرعة خارج البيت لتستقبل سيارة الأجرة ودقات قلبها تتسارع، ويدها ترتجف، لم تعرف بالتحديد كنه هذا الشعور، توقفت سيارة الأجرة أمام باب الكلية، سارت “أحلام” تجاه المدرج لتأخذ مكانها بجانب زملائها الطلاب وعيونها تبحث عن شيء، متلهفة للظفر به، إنه إحساس المحبّ. فجأة لمحت “صلاح” وهو قادم يحمل محفظته الجلدية. تضاعفت دقات قلبها، التفت “صلاح” صوب مقعدها باحثا عمّن سرقت قلبه وملكت فؤاده، فكان لقاء العيون أقوى من لغة الكلام. بدأ “صلاح” في إلقاء محاضرته، كان موضوعها، “الرواية العربية” طرح الأستاذ “صلاح” سؤالا وجيها على تلاميذه: - هل استطاعت الرواية العربية عبر العصور السالفة إيصال المشاعر والأحاسيس التي يمر منها البطل إلى قلب القارئ العربي؟ تعددت الأجوبة بين النفي والإيجاب، البعض قال إن الرواية العربية جزء لا يتجزأ من معاناة الإنسان العربي بكلّ همومه وأفراحه، خصوصا المرأة التي تعتبر عند الرجل العربي مجرد جسد يشتغل لإشباع نزواته البويهمية ولإفراغ مكبوتات هذا الإنسان الضعيف. البعض لم يستسغ هذا الجواب، واعتبر أن الرواية تحمل كل ما هو جميل ومعبر عن العلاقة بين الرجل والمرأة، على اعتبار أن المرأة نصف الرجل، وأن أجمل ما يجمعهما علاقة تلتئم فيها الأرواح، وتسمو إلى عالم الجمال والحب، فليس كل ما قيل في جلّ الروايات أو القصص مشين وماجن. استحسن الأستاذ الردّ الأخير، وختم محاضرته قائلا: - يا ليت شبابنا اليوم يدوّن كل أحاسيسه ومشاعره في روايات وقصص إبداعية، ليسود الحب بين الرجل والمرأة في أقطار المعمورة. - ابتسمت “أحلام” ابتسامة عريضة فأجابته: - في ظل العولمة، يا أستاذ والاختراعات والتكنولوجيا المدمّرة، طغت العلوم التي كان ضررها أكثر من نفعها، علوم دمرت أوطانا وأثكلت نساءً، ويتّمت أطفالا وأعطبت رجالا، في ظل هذا يا أستاذي، كم نحن في أمسّ الحاجة إلى شباب يحمل مشاعر رقيقة وأحاسيس مرهفة، وينشر داخل صفحات الكتب والمجلات نداءً مفعما إلى القلوب كي تعشق، وتبتعد عن الكراهية والحقد ليسود السلام أقطار العالم قاطبة. كانت هذه الكلمات بلسما شافيا أوصل رسالة إلى الأستاذ، فكانت جوابا عن كل ما يريد أن يعرفه عن معشوقته. غادر الأستاذ المدرج شارد الذهن يفكر في خصال هذه الطالبة الشابة المجدّة التي تحمل هذا القلب المليء بالمشاعر الفياضة، بينما كانت “أحلام” وراءه تتأمل خطواته، بالقلب العاشق الذي لا يخطئ حدسه، التفت “صلاح” وراءه باحثا عن “أحلام” قصد إيصالها معه بواسطة سيارته إلى منزلها. أدركت “أحلام” ما يريده “صلاح” وبحشمة وخجل طفولي، صعدت “أحلام” إلى المقعد الأمامي بجانب “صلاح”. انطلقت السيارة تشقّ الطريق، لحظة وجيزة ساد الصمت فما كان من “صلاح” إلا أن بادرها قائلا: - هل تسمحين لي بفرصة لقاء مساء هذا اليوم. - فأجابته “أحلام” بعد برهة من الصمت، وهي تشعر بسعادة غامرة: - لا مانع عندي. اتفق العاشقان على العشاء في مطعم راق رومانسي، كانت المسافة طويلة بين البيت والكلية، رغم ذلك أحست “أحلام” أن الوقت مرّ بسرعة وهي بجانب “صلاح”، نزلت أحلام وعيون “صلاح” تتشوق النظر في هذه القامة الممشوقة التي ينسدل فوق أكتافها شعر أسود فاحم، يغري الشاعر بنظم أبيات كالتي قالها شعراء الجاهلية، حيث كان الشعر والعيون مقياسا لجمال المرأة المغربية. اتجه “صلاح” صوب بيته ليجد زوجته “كريمة” في انتظاره، أسرعت نحوه لتحمل عنه المحفظة، وتنزع عنه معطفه، لم يبال لتحيّتها ولابتسامتها المعهودة، وبلهفة المشتاق سألته: - هل أقدم الغذاء الآن؟ - أجابها “صلاح” وهو يدير وجهه نحو أطفاله الجالسين على مائدة الغذاء في انتظاره: - طبعا إن اليوم بالذات لديّ شهية مفتوحة للأكل لم أكن أعهدها قبل. - ابتسمت “كريمة” بعفوية سألته: - ما السبب؟ نظر إليها “صلاح” يتأمّل وجه زوجته الجميلة، وشريط لقائه الأول بها يمرّ أمام مخيلته، كان اللقاء الأول بها يوم زفاف ابن خالته، كانت في أبهى حلّتها وهي ترتدي فستانها الأسود الجميل المرصع، تلك الليلة ملكت “كريمة” قلبه، وشغلت فكره، فتعددت المواعيد واللقاءات الحميمية، لتنتهي بالزواج، ثم بإنجاب أبنائه الثلاثة جلس “صلاح” فوق مائدة الأكل، يتأمل صحنه، وبدأ يلتهم الأكل بشراهة، كم هو لذيذ طبخك، اليوم، قالها “صلاح” في قرارة نفسه، بينما كانت “كريمة” زوجته تحدق في هذا المشهد الغريب الذي لم تعهده من قبل، وقد غمرتها سعادة لا توصف، وهي لا تدري ماذا يخبئ لها القدر، امرأة أخرى خطفت قلب زوجها العزيز. انتهى “صلاح” من الأكل، وذهب إلى فراشه ليخلد دقائق إلى النوم، فكان ذلك أبعد من أن يتحقّق، لم يستطع أن يغمض جفنه، وكيف له ذلك وخيال “أحلام” ملأ فكره وسلب عقله. أما “أحلام” فكانت معنوياتها مرتفعة، تنتقل بخفة ومرح داخل بيتها تنسج داخل مخيّلتها مشهد اللقاء الذي سيتم بينها وبين حبيبها، تبحث عن كلمات معبرة تبثها إليه وتصور له ما يعتلج داخل قلبها. حان الوقت المحدّد للقاء، تعطرت بأجمل عطر لديها، واحتارت في اختيار فستان سيظهر هذه المفاتن التي كانت حبيسة فيما قبل، بين الحشمة والتقاليد التي فرضتها عليها بيئتها المحافظة، استقر رأيها أخيرا على فستان أهدته إليها خالتها في عيد ميلادها، فمنعها والدها من ارتدائه، بدعوى أنه فستان مكشوف لا يليق بها كطالبة وفتاة من أسرة محافظة أما اليوم فقد تغيّر كل شيء في حياة “أحلام” تغير الوضع وانتهت العادات والتقاليد بالنسبة إليها. ولم لا؟ إنه الإحساس بالحب، وأمام الحب يمّحي كل شيء. أسرعت “أحلام” إلى غرفة والدها، وهي تبحث عن سبب وهمي لتبرير خروجها وسهرها خارج البيت، في وقت متأخر من الليل، كانت الوالدة جالسة أمام آلة الخياطة، تخيط فستانا لها. عندما رفعت رأسها وشاهدت ابنتها وهي في أحلى أناقة، وأبهى منظر لم تره من قبل، اندهشت لهذا المشهد، سألتها: - إلى أين أنت ذاهبة يا ابنتي؟ - تلعثم لسان “أحلام” وهي تحاول الردّ على سؤال والدتها: - إني ذاهبة يا والدتي لحضور عيد ميلاد صديقتي شذى. انتبهت “مريم” والدة “أحلام” إلى عقارب الساعة، إذ كانت تشير إلى الثامنة مساء فسألتها: - أتدرين كم الساعة الآن، متى ستعودين؟ - حين ينتهي الحفل سأعود. كانت الدهشة تخرس لسان الأم، انتابتها شكوك في أمر ابنتها “أحلام” التي لم يسبق لها أن قبلت دعوة، تبقى ساهرة من خلالها إلى وقت متأخر في الليل. غادرت “أحلام” مسرعة إلى الشارع تبحث عن وسيلة نقل تقلها إلى حبيبها، وبداخلها تعتلج عبارات التأنيب واللوم عن هذا التصرف الغريب عنها، إنه الكذب، يا إلهي إنها أقبح صفة، كنت أكره مستعملها، سامحني يا رب. وما هي إلا ثوان معدودة حتى كانت “أحلام” تقف أمام عشيقها الذي حطّمت من أجله كل القيود والأعراف، مدّ يده إليها ليصافحها، فأحست من خلالها بدفء غريب سرى في جسدها كله، إحساس غريب شعرت به “أحلام” هذه الليلة. إنها المغامرة، بدأت تلعب أطوارها في حياة هذه الشابة. جلس الاثنان على مائدة العشاء، بينما كانت موسيقى حالمة تنبعث من جنبات المطعم، لأنها أنغام وأضواء الشموع الرومانسية التي زادت اللقاء حميمية، بادرها “صلاح” بالسؤال: - هل أنت سعيدة بوجودك معي هنا؟ - كل السعادة. وقف النادل ليقدم لهما ورقة أنواع الوجبات، فوقع اختيار “صلاح” على وجبة السمك، أما “أحلام” فقد فضلت أكلة الدجاج والخضر المسلوقة. ساد صمت أثناء الأكل، قطعه “صلاح” مستهلا حديثه عن مدى استعداد “أحلام” للامتحانات المقبلة، فكان ردّها كل الاستعداد. شعر “صلاح” بارتياح وكأنه أزاح عبئا ثقيلا عن كاهله، ولحظة تلو الأخرى كان “صلاح” يسرق النظر إلى “أحلام” وهي تمسك بين أناملها الشوكة والسكين، تحاول من خلالها تقطيع الدجاج، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، لإحساسها بالخجل من تجربة هذه اللحظات، التي لم يسبق لها خوضها.. أن تجالس شخصا غريبا عن محيطها في وقت متأخر من الليل. أحس “صلاح” بصعوبة الموقف المحرج الذي تخوضه حبيبته، فما كان منه إلا أن بادرها بالسؤال: - أراك لا تقبلين على أكل ما في صحنك؟ أسدلت “أحلام” جفونها وهي تنظر إلى الصحن أمامها دون أن تجد مبررا للجواب على سؤاله، سوى أنها حاولت أن تعيد الكرة مرة أخرى دون أن ترفع عيونها إليه. وفي هذه المرة أفلحت “أحلام” في التهام جزء يسير من الدجاج الموجود أمامها محاولةً إقناع “صلاح” أن كل شيء يمر عاديا بالنسبة إليها. كاتبة من المغرب يُنشر الملف بالتعاون مع "الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية
مشاركة :