نحن نعرف أن للفن رسالة. ولكنني لم ألمس أبعادها وأثرها بصورة شخصية كما لمست عندما ذهبت قبل أشهر لسماع مطربة من الصين. كثيرا ما أعذب نفسي بغريزة الفضولية المتضخمة عندي. اشتريت بطاقة وذهبت لهذه الحفلة. ما إن بدأ الجوق بالعزف والمطربة بالغناء حتى شعرت بأنها جزء مني. كانت تغني بنفس المقامات التي تميز موسيقانا في الشرق الأوسط. كانت تغني كأي مطربة عربية أو كردية أو تركية. شعرت بأنها كانت تغني في مقام النوى الشائع بيننا. وكانت سيماؤها وقيافتها كسيماء أي فتاة إسطنبولية حسناء. التقيتها بعد الحفلة وسألتها: هذه ليست موسيقى صينية. فمن أنت، وما هو غناؤك؟ قالت: أنا مطربة مسلمة وتركستانية ولا شأن لنا بالصين والصينيين. ومن حينها، تحولت إلى داعية من دعاة استقلال تركستان الشرقية التي ضمتها الصين إليها في القرن الماضي. لا علاقة لأهلها المسلمين بالصين مطلقا. تذكرت حكايتها على أثر ما قام به عشرة من أعضاء حركة تركستان الشرقية الإسلامية بالهجوم قبل بضعة أيام على مجموعة من الصينيين وقتل نحو ثلاثين منهم. دخلت قبائل الايغور الدين الإسلامي في القرن العاشر الميلادي وتحولت إلى إمبراطورية ضاربة الأرجاء وجنكيز خان كان أحد سلاطينها، بيد أن المنازعات المستمرة بينهم أضعفت كيانهم فتمكنت الصين من ابتلاع منطقتهم عام 1909. بيد أن أبناءها المعروفين بشجاعتهم وفروسيتهم قاموا بثورات كثيرة حتى تمكنوا من الحصول على استقلالهم وإقامة دولتهم عام 1933 وتم الاعتراف بها عالميا. بيد أن ماو تسي تونغ ضمها إلى الصين الشعبية ثانية في سنة 1949. ولكنهم عادوا في السنوات الأخيرة للمطالبة بالاستقلال والانسلاخ من الصين. وظهرت بينهم منظمات متشددة، كما رحل بعض أعضائها إلى أفغانستان للمشاركة في عمليات طالبان. وهنا أيضا نجد العوامل الاقتصادية تلعب دورها في مصير هذه المنطقة المسلمة. فقد عرفت ولاية اكسنجيانغ (الاسم الرسمي لها) مؤخرا بمصادرها المعدنية الغنية، بما في ذلك الذهب والنفط والغاز، وهو ما يجعل الصين تتمسك بالسيطرة عليها. كما تعد من أهم المناطق السياحية. ويتفوق سكانها ثقافيا وتعليميا على بقية مناطق الصين. كما أن الحروف العربية ما زالت شائعة بينهم. ما سمعته من غناء هذه المطربة التركستانية وموسيقاها وهيئتها وثيابها القومية وما اطلعت عليه فيما بعد من تراث هذه المنطقة وتاريخها يوضح لي أنها منطقة تختلف كليا عن بقية الصين الشعبية وبما يؤهلها لنيل استقلالها وانضمامها لأسرة الأمة الإسلامية الواسعة. وسيكون من صالح الصين في رأيي أن تتخلص منها كجسم غريب عنها وتذعن لمطالب شعبها، دفعا لمواجهة مريرة بعيدة المدى.
مشاركة :