الثقافة يمكن أن تكون حمالة لقيم كونية، ولكنها لا تختص بها دون سواها، ولا يمكنها تصديرها أو فرضها بالقوة، وأن الثقافات إذ تغتني أخذا وعطاء يمكن أن تنتج تلك القيم الكونية.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/11/09، العدد: 10807، ص(15)] عند الحديث عن تنوع الثقافات وصدام بعضها ببعض وغزو بعضها لبعض تبدو الثقافات متعددة، مختلفة، أو متعارضة، فالثقافة بهذا المعنى نسبية، لا يمكن أن تكون حمّالة لقيم كونية يشترك فيها جميع البشر، لكونها تتكون من عناصر خاصة بها، تشكل ظاهرة مفردة غير كونية. ومن ثَمّ ليس من حقّ أي ثقافة تصدير قيمها وفرضها بالقوة بدعوى أنها كونية، لأن في ذلـك نوعا من الذاتية الأنوية (أي التي تعتبر الأنا نقطة مركزية)، وقراءة للتاريخ متحيزة، لا تستند إلى أي معيار موضوعي تحدد به الطابع الكوني لبعض القيم. وإن استطاعت بعض الثقافات أن تجد لها مستقرّا خارج فضائها الطبيعي، فالسبب لا يعزى إلى تميّز عناصرها وإنما إلى طابع الهيمنة الـذي تتسم به الدول القوية. غير أن بعض المفكرين يؤكدون أن الثقافة يمكن أن تكون حمّالة لقيم مخصوصة دون أن يتعارض ذلك مع الكونية، أي أنها يمكن أن تشتمل على قيم نسبية، خاصة بها، إضافة إلى قيم كونية تشترك فيها مع الثقافات الأخرى، كتحريم زنا المحارم الذي تحدث عنه ليفي ستروس في “البنى الأولية للقرابة”، وتجريم القتل، وإدانة العنف، وضمان الملكية… وكلها قيم تتبناها شتى شعوب الأرض على اختلاف معتقداتها، ولكن قد تختلط الكونية بالإمبريالية، كما في حال حقوق الإنسان، التي يشرّع بها الأقوياء أعمالاعدوانية أبعد ما تكون عن القيم الأخلاقية، لأنها امتداد للهيمنة الاقتصادية والسياسية لثقافة ما بوسائل أخرى، كما في حروب أميركا ضد محور “الشرّ”، وهو ما سبق أن أدانه كارل شميت في “نومـوس الأرض”، حيـن بيّن أن القوى العظمى تغلّف حروبها باعتبارات أخلاقية عبر ادّعائها تمثيل محور “الخير”، والحال أن الدافع دائما هـو تضارب مصالحها مع الطـرف المقابل. وفي رأيه أن لا حق لأي ثقافة أن تدّعي علوية أخلاقية على غيرها للهيمنة عليها. ولا يعني ذلك أن تعيش الثقافة منعزلة، منغلقة على ذاتها، مقطوعة عن سواها، لأن في ذلك موتها، بل أن تنفتح على الآخر، دون أن تفقد خصوصيتها، من خلال التبادل والتحاور مع الثقافات الأخرى، كما فسّر بول ريكور في كتابه “عينُ الذّاتِ غيرا”، فالثقافات في مفهومها هي جملة من الإنتاج تحكمه النسبية لا محالة، ولكنها لا تعدم قيما إنسانية. والخلاصة أن الثقافة يمكن أن تكون حمالة لقيم كونية، ولكنها لا تختص بها دون سواها، ولا يمكنها تصديرها أو فرضها بالقوة، وأن الثقافات إذ تغتني أخذا وعطاء يمكن أن تنتج تلك القيم الكونية. كاتب تونسيأبو بكر العيادي
مشاركة :