الكنز ظهر لمريدي الشيخ حينما شقوا الأرض بالفؤوس لزرع "طرمبة" تجلب المياه لكن الشيخ الزاهد خشى على المريدين من غواية الذهب، فقذف في عيونهم رمالا رطبة، أغمضوا عيونهم وأزالوا الرمال وآثارها، ولما فتحوا أعينهم كان الذهب قد اختفى ولم يظهر ثانية، ثرثروا كما شاءوا، لكن فاتهم أن آذان الحيطان ستنقل الكلام كله إلى ناظر الأوقاف ومسئولي الأمن، وأيضا إلى "من يجلس على الكرسي الكبير"، فات هؤلاء أن الحاكم يشبههم في العجز، ويشاركهم الحلم بالكنز لفشله في معالجة أوضاع اقتصادية صعبة، أدت ندرة الموارد إلى تفاقمها. • خبيئة العارف عن هؤلاء وعن رحلة البحث عن الكنز تدور أحداث رواية "خبيئة العارف" (الدار المصرية اللبنانية) وهي وإن كانت عاشر روايات الكاتب عمار علي حسن، لكنها تمثل الحلقة الثالثة في مشروعه لإبداع واقعية سحرية عربية، وكما في سابقتيها "شجرة العابد" و"جبل الطير" يمتاح الروائي من نبعي التاريخ والموروث الشعبي فضلا عن وروده لغدير حكايات وكرامات المتصوفين، لكنه لا يقدم عملا تاريخيا، وكذلك ليست روايته عن سيرة الشيخ أبي العزائم، بل تنطلق من البحث عن كنزه لتقتفي أثره وتنهل من عرفانيته. وفي ذات الوقت تسلط الضوء على واقع تعس تئن من سطوته الخلائق، وللتأكيد على ذلك ولنفي تاريخية الرواية أو سيريتها يؤكد الروائي على رمزية "الخبيئة"، ابتداء بالعنوان حيث الطباق الجامع بين متضادين هما طالخبيئة/ السر" و"العارف" كذلك يلجأ إلى الاستعارة من بناء المسرحية، فيقسم روايته إلى فصول ثلاثة، في الأول "خطى العراف" يمهد لرحلة البحث، ويظهر الثاني "أوراق العارف" عقدة الدراما/ الرحلة، وفي الثالث تسقط الأقنعة وتتكشف الحقائق بشأن الباحثين عن الخبيئة والطامعين فيها فيتجلى الحل بالسير في "طريق المعروف". • خطى العرّاف الجالس على الكرسي الكبير يأمر ناظر وقف البلد وموظفيه وأجهزة الأمن بالبحث عن الكنز، ولم يفته أن يستدعى ساحرا مغربىا ليفك طلاسم الخبيئة ويستعين بما يسخر من جان - هكذا تبين الرواية ملمحا ثانيا من ملامح الحاكم - أما ناظر الوقف فيكون أكثر فطنة، يلجأ إلى أستاذ جامعي يدعى الدكتور "خيري محفوظ" – لاحظ دلالة الإسم بشقيه – وهو باحث تاريخي مهتم بالمتصوفة وآثارهم، في البدء يشك في الأمر، لكن ما إن يعرف حقيقة مهمته حتى تثور مطامعه وطموحاته في تولي منصب كبير، فإن أفلح في مهمته وحقق حلم الجالس على الكرسي لن يبخل عليه بشيء. وهنا تضيف الرواية ملمحا إضافيا تكتمل به صورة الحاكم، حينما حكى عنه ناظر الأوقاف "رأى في منامه، وهو الذي يصدق ما يحلم به ويجري خلفه فور استيقاظه، رجلا يرفل في جلباب أبيض واسع، ويمسك عصا بيمناه، ويرفع يسراه نحو السماء البعيدة. كان يمشي على مهل، ثم يقف في أماكن يختارها، ويضرب قدميه في الأرض فتنفلق، وتخرج منها شرائح سميكة وسبائك ومشغولات ذهبية. تقف في وجه الريح، ثم تتمايل لترقص فرحا بخروجها من سجن الأرض إلى العيون، التي تتابعها في لهفة، والأيدي التي تمتد إليها محاولة أن تقبض عليها". • أوراق العارف يبدأ خيرى محفوظ مهمته بمخاطبة الحاكم عبر رسالة خطية طويلة، تظهر من مدى نفاقه وانتهازيته، فهو يصف تكليفه بكتابة سيرة الشيخ "محمد ماضي أبوالعزائم" بالحكاية التي يريد من خلالها التسرية عن الحاكم، ثم يمتدح نفسه وطريقته في كتابة التاريخ، قبل أن يعرض ما يمكنه تقديمه من خدمات "وهي طريقة أتمنى أن تروق لكم، فتتاح لي فرصة تأليف كتب التاريخ لمختلف المراحل التعليمية، أو تأليف كتاب عن حياتكم، فنعمق حب الوطن وحبكم في قلوب الناشئة". ولا تنتهي الرسالة قبل أن يبلغ التزلف مداه "وأنتهز هذه الفرصة الثمينة لأبلغ فخامتكم أنني من قرية بدلتا النيل، هي نفسها التي ينتمي إليها جدكم، قبل أن ترحل الأسرة الكريمة إلى القاهرة، ولا أقصد من هذا سوى أن أبين لكم أن هناك جذورا مشتركة بيننا، ربما تلهمني، عن بعد، بما تقصدونه بدقة من كتاب سيرة هذا الرجل الصوفي". بعد الرسالة تبدأ المهمة، يرحل المؤرخ من القاهرة مقتفيا أثر الشيخ إلى محلة أبوعلي ثم مدينة البرلس ثم يرتحل جنوبا إلى إدفو حيث أول مدرسة عمل بها الشيخ وبعدها الإبراهيمية بالشرقية، فالمنيا، ومنها إلى أسوان فوادي حلفا وسواكن والسودان حيث قضى الشيخ أبوالعزائم سنوات منفاه الإجباري قبل أن يستقر أخيرا في القاهرة. عبر هذه الرحلة الشاقة تقربنا الرواية من الشيخ أبوالعزائم وأفكاره وأشعاره وآثاره وأيضا كراماته، فتكسب الرواية بعدا معرفيا فوق أبعادها الفنية. • طريق المعروف ينتهي المؤرخ من دراسته عن الشيخ أبوالعزائم، فيرفع تقريرا برحلته الطويلة إلى ناظر وقف البلد، لا يتضمن التقرير ما يرغبون فيه، فيكتب مسئولو أمن السلطة تقريرا مضادا يتهمون فيه المؤرخ بتضليل الجالس على الكرسي الكبير وتعمد إبعاده عن الكنز. هنا يفيق الرجل، فخيري محفوظ الذي رحل من مكان إلى مكان تقصيا لحكايات وأخبار تعينه في الوصول إلى الكنز، رأى أن كل شيء تغير، يلحظ "حُمَّى نبش المقابر، وحفر الأرض، بحثاً عن المخبوء في باطنها"، ينبش هو في داخله فيتغير، وتلك رحلته الأهم المطمورة تحت ركام الرحلة المكلف بها، يتخلص على أثرها من مطامعه، يكتشف أن كنزه في قلبه، فالشيخ صدق حينما نصحه وهو يشير إلى صدره "أحفر هنا"، والرحلة بمشاقها وبالمحنة التي أعقبتها لم تكن إلا ثمنا لوصوله إلى ذاته ليكون كما هو "خيري" و"محفوظ". (خدمة وكالة الصحافة العربية).
مشاركة :