على الرغم من كل الموضوعات الملحة التي تحتاج مني التوقف عندها، إلا أني أحتاج أن أقف مع نفسي اليوم لأتأمل في نصف القرن الذي مضى من حياتي وأدشن نصفه الثاني. ماذا أنجزت وما لم أنجز، ما أحسنت استثماره وما خسرته، ما أسعدني وما أتعسني، كم رأيت وكم تعلمت، وو.. لم يكن يوماً عادياً وقد بلغت الرشد وعشراً. ولولا محبة من حولي لم أكن لأكون شيئاً، زوجي، أبنائي، أمي وأبي، أختي وأخي، صديقاتي وأصدقائي، زميلاتي وزملائي، من أعرف ومن لا أعرف. كان يوماً مليئاً بالمشاعر والأحداث بدأ باحتفاء أطفالي وزوجي بي فجراً وقبل ذهابهم المدرسة، ثم تلاه مع الصديقات واحدة بعد الأخرى. فاجأتني العزيزة د. فوزية أبو خالد بشموع أقل بكثير مما ينبغي لأطفئها وفراولة أكثر بكثير لتذوقها وأمنيات عزيزة لأطلقها. وما بين الصباح والمساء والجو والأرض كان لقاء العزيزتين د. مي دباغ ومنال الضويان في مشروعهما الأكاديمي الفني الإبداعي التوثيقي، "أرشيف قصة المرأة السعودية" ما بين النص والصورة، بدعم من جامعة نيويورك أبو ظبي، في استكشاف المساحات التي تمكنت المرأة من حفرها وخلقها لنفسها ولغيرها بنجاح عبر وسائل المفاوضة بالتحديد، وجلسة طويلة أمام الكاميرا وفي حضرة أسئلة ذكية تستدعي الماضي وتحولاته والحاضر وعلاقاته وكل ما يندرج تحت خانة التأمل في الذات ومكاشفتها دون كوابح. وما أراه يستحق المشاركة هنا هي الفرصة التي سنحت لي عن طريق هذا المشروع المبتكر للتفكر والمراجعة واستدعاء الأفكار والتجارب التي تمخضت عن إحداث تغيير، على الأقل على المستوى الشخصي، والتطور الذي ينال هذه التجارب الأولية والنيات الأولى ضمن ما اعتبرته الحالة الطبيعية لنضجها وانتقالها من مرحلة إلى أخرى بناء على عوامل متعددة منها الذاتي ومنها التفاعلي الذي نالته الفكرة من الخارج ومن ثم كيف تحولت إلى تجربة أكثر شمولية في طريق البحث والاكتشاف. فالخبرات تُبنى على فكرة تتطور، وتتفاعل مع محيطها، ثم تصبح منتجاً وربما مختلفاً وربما أكثر دلالة من ساعة صفره. وكانت أكثر هذه التجارب تنوعاً وتفرعاً، والذي استغرقتُ في الحديث عن أبعاده قرابة الساعتين، هو ذلك الخاص بتجربة ارتداء المحرمة والمدورة، أو الزي العربي، أو الزبون أحياناً، أو الزي الحجازي أو المكي التقليدي الذي عُرفت به في الإعلام وفي الجامعة وفي المحافل العامة والرسمية. سألتاني عن قصته ودلالته وما إن ارتبطت به أي مفاوضة. لم أكن أتوقع وأنا أقص عليهما قصته أني سوف أحتاج لأبدأها بالحديث عن التحولات الاجتماعية التي نالت المجتمع السعودي في السبعينات مع الطفرة والموقف من الحداثة والمعاصرة. القصة التي بدأت بالفصل الثاني من عامي الجامعي الأول في جامعة الملك سعود عام 1982/83 بمحاولة لإشراك مجتمعي من الفتيات بعثوري على بغيتي في بحثي عن هويتي واستعادتها بارتدائي زيها واستبدال الأزياء المرتبطة بالمعاصرة مما لم نشارك في صنعه لأتيه به خيلاء أمام الاحتكاك الثقافي بالغرب والشرق. ارتديت الزبون بعد أن أخذت تفاصيل ارتدائه ولف مدورته وتركيب أزاريره الذهبية من عمتي بالرضاعة، عاشة قاضية، رحمها الله، ثم قررت حضور محاضراتي به بأمنية أن تسري هذه الدعوة في زميلاتي وبنات الجامعة لارتداء أزيائهن التقليدية في هذا المحفل العلمي لنمزج الاثنين سوياً، الحفر في العلم والمعرفة والحفر في الذات والهوية. وعلى الرغم من أن تلك الدعوة غير المباشرة لم تنجح بشكل مباشر، إلا أني أزعم أنها خلقت تساؤلات ومن ثم وعياً تدرج شيئاً فشيئاً نحو بحث عن مكونات ذلك الماضي القريب الذي كان مؤسفاً تركه دون تأمل ودون تقديم بديل مقابل. ولعل البعض سيقول إنه في نهاية المطاف زيّ خارجي وشكليّ ولا يعكس بالضرورة حضارة أو إنتاجاً، وعلى الرغم من اقتراب هذه الملاحظة من الحقيقة، وهناك الكثير ممن يعوّل على زي يزعم أنه تقليدي ليتمسك به ويلبسه لباس الثقافة الإسلامية مثلاً، كما يفعل البعض ممن يتحول إلى ارتداء الزي الأفغاني أو الباكستاني أو العباءة السوداء أو الثوب والشماغ. لكن ليس هذا ما أقصده قدر ما أقصد أن تكون هناك علاقة وثيقة ومتدرجة بين الماضي والحاضر نتحكم فيها ولا تصيبنا بالانقطاع أو الفراغ. إن من يتحول إلى الإسلام ويبحث في أزياء المسلمين المتعددة من الصين إلى المغرب عن الإسلام نفسه إنما يتشبث بشكل الإسلام أكثر من جوهره، وحالة الإنسان في بحثه عن هويته الشخصية وماضي تراثه مختلف في العلاقة وفي النتيجة. لا أدري كيف وصل بي التأمل إلى هنا ولم أبدأ بعد حديث الشهادة بل إنني ما زلت في السنة الأولى وها قد انقضى عدد الكلمات المتاح. فلعل لي عودة قادمة، وكل عام وأنتم بخير.
مشاركة :