ليس جديدًا ذلك القول السائد بأن المستقبل يملكه من يستخدمون عقولهم بدلًا من أيديهم ، فهناك حكمة قديمة بأن المعرفة قوة أو سلطة. لقد حلَّت الآلات المبرمجة محل جزء هائل من القوة العاملة؛ وبالتالي قلَّ عدد من يكسبون عيشهم عبر مايصنعونه يدويًا، وفي المقابل تزايدت العمالة في قطاع الخدمات حتى تجاوزت ثلثي القوة العاملة في أمريكا، كما تضخمت المعلومات؛ حتى أصبح لها بنوك ومراكز. لقد دخلنا بالفعل عصر المعرفة؛ حتى أصبح التفكير أحد أهم مهارات النجاح في أي عمل. ولا يمكن تصور الانقلاب الذي أحدثته شريحة السليكون المتناهية الصغر في مجالات صناعة الكمبيوتر، والاتصالات الرقمية، وروبوتات المصانع، علاوة على الاختراعات المذهلة في مجالات التكنولوجيا البيولوجية، والذكاء الصناعي؛ إذ لم يعد بالإمكان تخيل أي تقدم بارز في هذه المجالات المبتكرة، دون الدور الهائل الذي تلعبه المعلومات والمعرفة. في هذا العصر، أصبح كل من يجهل جهاز الكمبيوتر أميًا؛ إذ أصبح تطبيق المعلومات مفتاحًا لحل كثير من مشاكل العمل، وأصبحت الخدمات المعلوماتية جزءًا ضروريًا من العمل الناجح، فأين نحن- كعرب- من كل هذا؟ وما موقفنا؟ وهل سنبقى كالعادة في آخر عربات قطار المستقبل، أم آن الآوان لنفيق من غفوتنا التاريخية ؛ لنركض لاهثين وراء العالم الأول الذي يركب طائرة نفاثة، والذي يسعى لمعاملة الشعوب الأخرى (المتخلفة) كمعاملته لحيونات التجارب؟. عمال المعرفة بديلًا للياقات البيضاء يطرح عالم الإدارة الشهير بيتر دروكر في كتابه “ما بعد الرأسمالية” تصنيفًا جديدًا للعاملين يتخطى التصنيف التقليدي المعهود (أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب الياقات الزرقاء)، وهو: عمال المعرفة وعمال الخدمات، مؤكدًا أنّ النجاح سيكون حليف الطرف الأكثر تفهمًا لطبيعة التصنيف الجديد؛ حيث تراجعت أهمية الوظائف التصنيعية والإنتاجية، ولوحظ أنَّ عمال الإنتاج يخسرون وظائفهم لصالح الآلات والروبوتات. كذلك- وفقًا للكِتاب- تزايدت الحاجة للمهارات الرفيعة في الصناعة؛ بسبب حلول مفهوم التصنيع المرن (الذي يلبي متطلبات المستهلكين) محل مفهوم الإنتاج المعياري التقليدي؛ إذ أصبح التفكير والاستنباط من أهم سمات عمال المستقبل لمواجهة المتطلبات المتغيرة للمستهلكين؛ ما يستدعي مهارات خاصة وتدريبًا مستمرًا. محللو النظم وعلى سبيل المثال، تشير إحصائيات مكتب العمل الأمريكي إلى أن أكثر الأعمال المطلوبة حاليًا وفي المستقبل القريب هي أعمال محللي النظم ومبرمجي الكمبيوتر، وعلماء الكمبيوتر، والمساعدين الطبيين، وخبراء الجودة والإدارة، بينما قلَّ الطلب على وظائف مجمعي المعدات الإلكترونية والميكانيكية، ومشغلي آلات النسيج…إلخ. وما أكثر حاجتنا لدراسات مماثلة، وخاصة للقطاعات المهنية التي تعاني من البطالة؛ فطبقًا للقاعدة، فإنَّ الأعمال الأكثر طلبًا ستكون مداخيلها بالتالي مرتفعة ونموها عاليًا، والعكس صحيح، كما أن خلق الوظائف المتواضعة لا يحل المشكلة؛ فعلى سبيل المثال لم يؤدِ خلق 30 مليون فرصة عمل جديدة في أمريكا إلى زيادة العائد بشكل ملموس؛ لأنها كانت أصلًا ذات مداخيل متواضعة. وفي أوروبا لم يؤدِ خلق الوظائف الجديدة- خلال العشرين سنة الماضية- إلى نمو ملحوظ في المداخيل؛ لأنها كانت أعمالًا ثانوية!. قطاع الخدمات ويكمن الحل- كما يراه خبراء الغرب- في زيادة إنتاجية قطاع الخدمات، وتفعيل نظم المعلومات. وربما من الصعب، وغير الملائم تطبيق هذه الوصفة على وضعنا كعرب، ولكنَّه لا يمنع من إدراك أنَّ الطريق الوحيد لدخول عصر المعرفة والمعلومات، سيكون من خلال التعليم المستمر، والتدريب المكثف على التقنيات الجديدة، وليس عشق ” تجميع الشهادات” كما هو الحال عندنا، فالكل يلهث وراء الشهادات؛ حتى أصبح سوق التدريب بازارًا كبيرًا، وقد تستعجب عندما تقابل شخصًا لا يكاد يفقه شيئًا في الموضوع الذي يحمل فيه شهادة معتمدة!. لقد أصبحت المعرفة هي العنصر الأكثر أهمية في الإنتاج مستقبلًا، ولا تقل أهميتها عن عناصر حيوية أخرى مثل رأس المال والجهد المبذول (أي طاقة العمل). فإنْ كان نظامك التعليمي والتدريبي متخلفًا فلن يمكنك إحداث نقلة نوعية في مجال تطوير عملك، وخاصة إنْ كان مرتبطًا بالمعلومات. ولنأخذ الكمبيوتر مثالاً، ففي الولايات المتحدة يستخدم أقل من 15% من غير الحاصلين على تعليم جامعي، الكمبيوتر في أعمالهم، بينما يرتفع الرقم لدى الجامعيين لأكثر من 70%، كما أن بعض الشركات الكبرى- مثل “آي بي إم” و”آبل ” تعيدان تدريب عمالهما يومًا في الشهر لمواكبة التغيرات الكبيرة في هذه الصناعة، كما تكرر الشركات اليابانية التدريب دوريًا.الحصول على الرابط المختصر
مشاركة :