لقد اندهشت عندما قرأت في صحيفة يومية أنَّ خريج كلية حاسوب- يحمل شهادة في البرمجة- يعمل بائعًا للمرطبات الشعبية؛ لأنه لم يجد مجالًا للعمل في تخصصه! فهذا يدل على الافتقاد شبه الكامل للتنسيق مابين المعاهد والجامعات وأسواق العمل؛ وهو ما يمكن ملاحظته جليًا في نسب البطالة الكبيرة التي تشهدها بعض قطاعات الهندسة!. لا توظيف مدى الحياة أيضًا، استأت عندما علمت أن عبقري رياضيات جزائري يسعى للتخصص في الطب بدلَا من الرياضيات؛ وذلك طمعًا في كسب مزيد من الأموال من عمله كطبيب!. لم يعد ممكنًا أن تقوم شركة ما بتوظيف صبي في السادسة عشرة من عمره، وتدريبه ليعمل لعقود بإخلاص، ثم يتدرج في السلم الوظيفي طامحًا إلى أن يصبح مديرًا عامًا ذات يوم؛ لأنك إذا ما تعلمت اليوم شيئًا، ثم ظللت تمارسه بعد خمس سنوات من الآن، فغالبًا ما تقوم بشيء خطأ، ففي الغرب يتوقع أن يغير الخريجون الجامعيون مهنتهم حوالي ست مرات في حياتهم. ولم يعد المفهوم الياباني بالتوظيف” مدى الحياة ” بالقوة نفسها هذه الأيام؛ وهو ما يتطلب التأقلم مع المتغيرات الهائلة في أسواق العمل، عبر التعليم المستمر، والتدريب الدوري المتخصص، والربط الفعال ما بين التعليم الأكاديمي والمهني، ثم التوجيه المستمر الذي يبين للطلاب متطلبات سوق العمل ومتغيراتها، مع المرونة والتنوع، ثم التخلي عن بريق الافتخار بالشهادات والمناصب!. وإذا كانت “نيوزويك” قد اعترفت بأن الخطأ الأكبر للدول الصناعية يكمن في تجاهل المحاذير الخاصة بنوع التعليم، ومتطلبات أسواق العمل، ثم في ترك الاقتصاد غير جاهز لتوقعات وتغيرات المستقبل، فكيف هو الوضع في عالمنا العربي المضطرب الذي يفتقد لأدنى حدود التنسيق والتكامل؟! وكيف ستصبح الحال إذا ما استمر التعليم يعتمد كليًا على التوجهات والطموحات الشخصية للأفراد؟!. إنَّ التحدي الذي يواجه أي بلد يرغب في دخول سوق المنافسة الإقليمية أو العالمية، يتركز في قدرته على إعادة توجيه الاستثمار بالتعليم والتدريب المهني المتخصص والصناعي؛ إذ تظهر النماذج الحالية في دول ككوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، مواظبتها على تدريب مستخدميها؛ بهدف استيعاب معايير المنتجات الجديدة، مع مراعاتها لمتطلبات ومتغيرات الأسواق الدولية وأذواق المستهلكين. مكونات الاقتصاد الجديد ويكمن الطريق الوحيد للتفوق، في الاستغلال الأمثل للتخصص المعرفي والإنتاجية المتطورة، فلم يعد الأمر كما كان في بدايات الثورة الصناعية؛ إذ كان السبق من حظ الدول الأكثر ثراءً وموارد طبيعية؛ ما دفع الدول الإمبريالية لاستعمار واستغلال مناطق العالم الغنية بالموارد الطبيعية. لقد بدأ الأمر يختلف في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، باختلاف عناصر الاقتصاد الجديد؛ إذ دخلت مكونات مثل: المعلومات، والتعليم، والمعرفة المتخصصة، ناهيك عن تفجر ثورة الحاسوب، والإنترنت، والاتصالات، بما يدعم هذه المكونات الجديدة، وأصبح استيعاب التكنولوجيا المتطورة معيارًا أساسيًا لتقدم الأمم. كذلك، أصبحت أنظمة المعلومات ميدان سباق جديدًا للدول الصناعية الكبرى، والدول الطموحة كالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا؛ ما يتطلب تغييرًا أساسيًا في أنماط تفكيرنا التقليدية، وسعيًا محمومًا للحاق بركب الأمم المتقدمة، بدلًا من الانغماس المتعصب المجنون في ثورات وحروب وأحقاد طائفية تعيدنا لظلام القرون الوسطى وتدمر البلاد والحضارة وتقتل العباد.الحصول على الرابط المختصر
مشاركة :