لكي لا نكون بلا وطن (2/2)

  • 1/28/2018
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

إن موضوع تدهور اللغة العربية أمر لا يثير اهتمام الكثير. فلربما أصبحت الغالبية من الكويتيين والعرب بشكل عام تستحلي على أولادهم وبناتهم التحدث باللغة الإنكليزية، وإن كانت لغة إنكليزية ركيكة. ولقد وصل إهمال اللغة العربية درجة أن المطاعم «الراقية» لا تقدم لعملائها قائمة طعام باللغة العربية. فهي تفترض أن ميسوري الحال «متمكنون» من اللغة الإنكليزية. ولكن، لماذا تدهور مستوى اللغة العربية إلى هذا الحد؟ لا شك أن هناك أسبابا عديدة، منها اقتصادية، لأن الكثير أصبح يجد في اللغة الإنكليزية جسرا لإيجاد وظيفة. لكن أرى كذلك أن «الصحوة الإسلامية» تتحمل جزءاً من أسباب تخلف مستوى اللغة العربية. فالصحوة قلصت مساحة الحريات في الآداب والفنون، كما قلصت الصحوة هواء الحرية المطلوب استنشاقه للإبداع في الكتابة والفنون والآداب. كما تكون انطباع لدى الكثير بأن التمكن من اللغة العربية يقتصر على قراءة التراث الديني فقط. وانتشرت في مجتمعاتنا ظاهرة جوائز تحفيظ القرآن الكريم. وللأمانة فإن حفظ وترتيل القرآن يساعد في فهم اللغة العربية والتمكن منها. وبشكل عام الأطفال في المدارس يريدون منهجاً جذاباً وقصصاً ممتعة لكي يقبلوا على لغتهم العربية. والطفل يريد كتاباً جذاباً وحبكة جميلة وصوراً مبهرة لكي يقبل على القراءة. فقد أصبح يقارن بما يتوافر لديه في منهج اللغة الإنكليزية. ثم انه حتى مواضيع اللغة العربية للطلاب الكبار، تشترك في زرع الضجر لدى الطلاب مثلما هي للصغار. ومن تجربتي، أود أن أنقل إلى القارئ أن تدريس اللغة يحتاج إلى منهج وأستاذ، ويحتاج إلى حرية في التفكير. لقد وجدت نفسي منجذباً إلى اللغة العربية وأدبها من خلال دروس الأستاذين: نديم نعيمة وأسعد خير الله في أول السبعينات من القرن الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت. فمع أني كنت طالب علوم، كان يتطلب مني دراسة ثلاثة كورسات في الأدب والفلسفة الإسلامية. كنا ندرس نفس الكتب المتوافرة في الكويت، نقرأ في «فجر الإسلام» لأحمد أمين، ونمتحن في قصص لنجيب محفوظ. لكن الفارق كان في الأستاذ وفي الفضاء الحر الذي وجدنا أنفسنا فيه. كان الأستاذ يطرح الأسئلة، ولا يبحث عن إجابات محددة. وبعض الأسئلة مما استقر في ذهني ما زال من دون إجابات. فاللغة والأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية تحتاج إلى فضاء أوسع من الحريات لا يتوافر إلا في القليل من المدارس والجامعات العربية. اللغة هي المشكلة للفكر – أي لغة. هي كذلك للياباني والصيني والإنكليزي والألماني والفرنسي والعربي والفارسي. وكما يقول المؤرخ أناتول رابوبورت: «اللغة هي المقياس الأكثر أهمية الذي يتجسد فيه التعريف بالمواطنة. وحب الفرد للغته من مظاهر الإحساس النبيل الذي يتملك المفكر والمثقف وذوي الأخلاق الكريمة». وفي هذا العالم، تحتفل ألمانيا بمرور 50 عاماً على ميلاد القس مارتن لوثر، ليس لعواطف دينية، وإنما لعواطف قومية. فمارتن لوثر هو الذي ترجم الإنجيل والتوراة إلى اللغة الألمانية. وكان بذلك أن حول لغة محكية إلى لغة كتابة ونشر. كان ثائرا على الضجر والمحدودية التي وفرتها اللغة اللاتينية.. فكان أن خلق وطنا ألمانيا من خلال جعل اللغة الألمانية لغة الدين والثقافة والفنون والعلوم. فما كنا سنسمع عن إيمانويل كانت ولا هيغل ولا هولورين لولا مارتن لوثر. الإسرائيليون خلقوا لغة حية من فتات اللغة العبرية الميتة. أصبح اليهودي الروماني والعربي، والبولندي والفرنسي والأميركي متحدثا وكاتبا وناشرا بالعبرية. ما كان يمكن تكوين مجتمع يهودي متجانس في إسرائيل من دون إحياء للغة العبرية. لقد تم التدوين بلغتنا العربية من نتاج الثورة المعرفية التي خلقها الوحي القرآني، الذي سبق ترجمة الإنجيل للغة الألمانية بتسعة قرون. فالإسلام ليس دينا فقط وإنما ثقافة جمعت أمما مختلفة، وخلقت عمقا معرفيا ما زال ينبوعا لنا في اللغة والأدب والعلوم والفلسفة والفنون. استطاعت ثقافتنا أن تجذب الفارسي والتركي والكردي والهندي، كل هؤلاء تميزوا بتفاعلهم مع هذا الدين والثقافة الجديدة. حتى المسيحيون الأسبان وإن ظلوا على دينهم، انجذبوا وأخذوا يكتبون ويؤلفون الأشعار باللغة العربية. إن شهادة مطران قرطبة دليل على حيوية اللغة العربية، وان اللغة تصبح أكثر حيوية وأكثر جاذبية في فضاء الحريات. وعلينا أن نخشى أن يأتي ذلك الوقت الذي سيقتصر فيه استخدام اللغة العربية على قراءة الكتب التراثية والدينية. فاللغة هي وطننا، لذلك نجد أنفسنا أقرب نسبيا إلى المسيحي اللبناني والمصري والعراقي والسوري من إخواننا في الدين إن كانوا في إيران أو الهند أو تركيا. فقد تكون المسافة بيننا وبين طهران قريبة نسبيا. فالمسافة الى فاس في المغرب هي أضعاف المسافة إلى طهران. وقد مررت بهذه التجربة منذ أكثر من عشر سنوات. فكنت قد حضرت مؤتمرا ثقافيا في فاس، وبعدها بشهرين حضرت منتدى في طهران. لقد شعرت بغربة في طهران على الرغم من كرم وطيبة المضيفين، لكن في فاس كانت التجربة مختلفة. فاللغة واحدة، مما يساعد في تقريب الفكر وتشكل العواطف المشتركة. إن تدهور اللغة العربية لا يعيق التقدم والازدهار الثقافي فقط، وإنما يجعلنا من دون وطن. فاللغة هي المشكل الأهم لهويتنا. د. حامد الحمود Hamed.alajlan@gmail.comhamedalajlan@

مشاركة :