في خطبته ليوم الجمعة بجامع الخالد بالمنامة تحدث خطيب الجامع الشيخ عبدالله بن مسلم المناعي عن وصية الإسلام بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وقد وضع الأم في مكانة رفيعة علوية وجعل الجنة تحت قدميها.. فقال: إنَّ مِن أعظمِ الرَّوابطِ بينَ النَّاسِ رابطةً خصَّها الإسلامُ بمزيدٍ من العناية والذِّكرِ، فحضَّ عليها أكثرَ مِن غيرِها، وأمرَ بوصلِها والإحسانِ إليها في أحلكِ الظروفِ وأشدِّ المواقف، وحذَّرَ من المساسِ بأصحابِها، ولو بأدنى الألفاظِ وأقلِّ الكلمات، تِلْكُم الرابطةُ -عبادَ الله- هي رابطةُ الوالدَينِ. وهذانِ الأبوانِ جاءتِ الوصيةُ الإلهيَّةُ بالإحسانِ إليِهما في قوله سبحانه: «وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا». العنكبوت 8 ولمكانتِهما قرنَ اللهُ حقَّه بحقِّهما، وشُكرَه بشكرِهما، وأمر بالإحسان إليهما بعدَ الأمرِ بعبادِته, فقال تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» - الإسراء: 23، ولما سأل ابنُ مسعود رضي الله عنه النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: (الصَّلاة على وقتها) ، قلت: ثم أيُّ؟ قال: (بِرُّ الوالدين)، قلت: ثم أيُّ؟ قال: (الجهاد في سبيل الله), متفق عليه. الأمُّ هي قرينةُ الأب، وهي تُمِّثلُ نِصفَ المجتمع، ويخرجُ مِن بين تَرائبِها النِّصفُ الآخرُ، فأضحتْ -بحقٍّ- تَلِدُ الأُمَّةَ بكاملها، ومع هذه المكانة الرَّفيعة لِمَن جُعِلت الجنَّةُ تحت قدميها، إلاَّ أنَّنا أضحيْنا بين الفَينةِ والأخرى نَحتاجُ إلى التَّذكيرِ بحقِّ الأمَّهاتِ وواجبنا تُجاهَهنَّ، فيا تُرى مَن هي الأمُّ التي جاءتْ نصوصُ الشَّرعِ بطاعتِها وبرِّها، والتحذير من التهاون بشأنها، أو التقصيرِ في حقِّها؟ ليسَ هناكَ أبلغُ من كتابِ اللهِ تعالى وهو يَصِفُ لنا جزءًا من معاناةِ أُمَّهاتنا حالَ حملِهنَّ بنا، وإرضاعِهنَّ لنا, يقولُ الله تعالى في كتابِه الكريمِ: «وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا» - الأحقاف:15، فتأمَّلْ وصيةَ الربِّ الرحيم، وهو يُذكِّر بحالةِ العَنتِ والمشقَّةِ، والألمِ والنَّصَب، التي قاستها الأمُّ الحنونُ وهي تَحمِلُ جَنينَها في أحشائِها تسعةَ أشهرٍ، ذلك الحملُ الذي أقضَّ مضاجعَها، وأسهرَ ليلَها، وأوهنَ قُواها، تسعة أشهرٍ وهي تقاسي ثِقَلَ الحملِ وشِدِّتَه وعُسرَه، تسعة أشهر كأنَّها الدَّهرُ كلُّه، وهي ما بَينَ إعياءٍ وإغماءٍ، وكَربٍ وبلاء. ثم بعدَ ذلكَ الجهدِ الجَهيدِ، والعناءِ الرَّهيبِ، تأتي أشدُّ ساعاتِ الكرْبِ والألم، ساعةُ وضعِ الأمِّ لجنِينها وفَلذَةِ كَبدِها، تلك الساعةُ التي ترى فيها الأمُّ الموتَ بعينيِها، وتكاد تُسْلِم الرُّوحَ لبارئِها، فما أعظمَ معاناتِها, وما أشدَّ صرخاتِها, فإذا فرَّجَ اللهُ كُربَة الأمِّ بخروجِ طِفلِها الذي كادَ يقتُلها، تبدأ بعدَ ذلكَ مشوارَها الطويلَ لإرضاعِ صبيِّها عامين كاملين، وهو يَمتصُّ عُصارةَ غِذائِها وخُلاصةَ صحتها، حتَّى أنهكَ بدنَها، وأتعبَ رُوحَها. وهكذا تَظلُّ الأمُّ العُمُرَ كلَّه، وهي تُشفقُ على وليدِها، تَرعاهُ وتُغدق عليه من عطفِها، وتُحيطه بحَنانِها، تَسهر لسَهَرِه، وتَبكي لبكائِه، وتنقطعُ لألمِه ومرضِه، ولا يزالُ هذا دأبَها مع ابنِها، مهما كَبِرَ سِنُّه واشتدَّ عُودُه، يَظلُّ شجرةَ فؤادها، وقِطعةَ كبدِها. تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: جاءتْني مسكينةٌ تحمل ابنتينِ لها فأطعمتُها ثلاثَ تمراتٍ، فأعطتْ كلَّ واحدة منهما تمرةً، ورفعتْ إلى فِيها تمرةً؛ لتأكلَها، فاستطعمتْها ابنتاها، فشقَّتِ التمرة التي كانت تريد أن تأكلَها بينهما، فأعجبني شأنُها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فقال: (إنَّ الله قد أوجب لها بها الجَنَّة، أو أعتقها من النَّار) رواه مسلم. لهذه الآلامِ الشَّديدة والأعمالِ المجهدة، من حملٍ وولادةٍ ورَضاعٍ وغيرِها, خَصَّ اللهُ تعالى الأمَّ بمزيدٍ من الوصيةِ ببرِّها؛ فقد جاءَ في الصَّحيحينِ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقالَ: يا رسولَ الله، مَن أحقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحابتِي؟ قالَ: (أُمُّكَ)، قالَ: ثم مَن؟ قال: (ثُمَّ أُمُّك)، قالَ: ثم مَن؟ قال: (ثُمَّ أُمُّك)، قالَ: ثم مَن؟ قالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ). قال الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمه الله تعالى: جاءَ ما يَدلُّ على تَقدِيمِ الأمِّ في البرِّ مُطلقًا، وهو ما أَخرَجه الإمامُ أحمدُ والنَّسائي, وصحَّحه الحاكمُ من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: أنَّها سألتِ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ: أيُّ النَّاسِ أعظمُ حقًّا على المرأةِ؟ قال: (زوجُها)، قالتْ: فقلتُ على الرَّجلِ؟ قالَ: (أُمُّه). لا يُعجبنَّ أحدٌ ببرِّه بأمِّه، ولا يَتعاظمِ امرؤٌ ما يُسديه لها، فواللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، لا يُساوي ما نُقدِّمُه لأمَّهاتِنا طلقةً من طَلقاتِ وضعِها، أو زفرةً من زفراتها، أو صرخةً من صرخاتها. جاءَ رجلٌ إلى عمرَ بنَ الخطَّاب رضي الله عنه فقال: إنِّ لي أُمًّا بَلغ بها الكِبَر، وإنَّها لا تَقضي حوائجَها إلاَّ وظَهري مطيَّةٌ لها، وأُوضِّئُها وأصرِفُ وجهي عنها، فَهل أَدَّيتُ حَقَّها؟ قال: لا، قال: ألَيسَ قد حَمَلتُها على ظَهرِي، وَحَبستُ نفسِي عليها؟ فقالَ عمرُ: إِنَّها كانتْ تَصنعُ ذلكَ بِكَ وهي تتمنَّى بقاءَك، وأنت تَصنعُه وأنت تتمنَّى فِراقَها, ولكنَّك مُحسنٌ، والله يُثيبُ الكثيرَ على القليل. وأخرج البخاري في الأدب المفرد أنَّ ابنَ عمرَ رضي الله عنهما شهدَ رجلاً يمانيًّا يطوفُ بالبيت، حملَ أُمَّه وراءَ ظهرِه يقول: إنِّي لها بعيرُها المذَلَّل، إن أُذْعِرَتْ رِكابُها لم أُذعَر، الله ربِّي ذو الجلال الأكبر، حمْلتُها أكثرَ ممَّا حَمَلتْني، فهل ترى جازيتُها يا ابنَ عمر؟ قال ابنُ عمرَ: لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ. لَمَّا كان بِرُّ الوالدين عمومًا، والوالدةِ خصوصًا، من القُرباتِ العظيمةِ، تسابقَ إليها الأتقياءُ من عبادِ الله؛ من الأنبياءِ وأتباعهم، فها هو يحيى عليه السَّلام يقول عنه مولاه: «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا» - مريم: 14، وعن عيسى عليه السَّلام قال تعالى: «وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا» - مريم: 3. ومن مدرسةِ النُّبوةِ يَبرزُ لنا حارثةُ بنُ النعمان رضي الله عنه نموذجًا يَشهدُ له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بحسنِ المُكافأة، ويَراهُ في الجنَّة على بِرِّه، وهو بَعدُ في الدنيا, يقولُ عليه الصَّلاة والسَّلام: (نِمْتُ فرأيتُني في الجنَّة، فسمعتُ صوتَ قارئٍ يَقرأُ، فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا حارثةُ بنُ النعمان، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: كذلك البِر، كذلكَ البر، وكانَ أَبرَّ النَّاس بأمِّه). رواه أحمد، وصحَّحه الألباني. ولقد طَلبتْ أمُّ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنها من ابنها عبدِ اللهِ ماءً في بعضِ اللَّيالي، فذهبَ فجاءَها بِشربةٍ فوجدَها قد ذهبَ بها النَّوم، فثَبتَ بالشرْبة عندَ رأسِها حتَّى أََصبحَ، وها هو ابنُ عباس رضي الله عنه يقولُ: إنِّي لا أعلمُ عملاً أقربَ إلى اللهِ -عز وجلَّ- من بِرِّ الوالدةِ, أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصحَّحه الألباني. لقد كان السَّلفُ الصالحُ يجتهدون في الإحسانِ إلى والدِيهم، وخصوصًا أمَّهاتِهم، حتَّى وإن كانوا علماء، ولذلك باركَ الله في حياتِهم، وباركَ في علمِهم بعدَ مماتِهم، بسببِ رضا والدِيهم عَنهم. وفي ذِكْر بعضِ آثارِهم شحذٌ لهممِ الشَّباب خاصَّةً، وغَيرِهم عامَّة: كان أبو حنيفةَ رحمه الله تعالى بارًّا بوالدِيه، وكان يدعو لهما مع شيخِه حمَّاد، وكان يَتصدَّقُ كلَّ شهرٍ بعشرين دينارًا عن والديه.
مشاركة :