في رمضان يسارعون إلى مسابقات تافهة ومقابلات متدنية ويصرفون النظر عن علماء الأمة ومبدعيها في كل المجالات في خطبته ليوم الجمعة أمس بجامع نوف النصار بمدينة عيسى قال فضيلة الدكتور عبدالرحمن الفاضل: إن للتغيير طريقا واحدا بيّنه ربنا سبحانه وتعالى لنا وهو أن تغيير أحوال الناس لا يكون إلا بالتغيير الداخلي لنفوسهم؛ وذلك بحسب سننه وقوانينه الإلهية مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ». فالذي يريدُ التغييرَ ويريدُ إحداثَ التغيير عليه أن يغيرَ هو من داخلِه، عليه أن يغيرَ من نفسه حتى يغير اللهُ ما به!! وإن التغيير المنشود الذي نحن بصدد الحديث عنه هو التغيير المرتبط بالإيمان بالله تعالى، الذي يُحدث وجوده في النفوسِ أثرًا حقيقيا يظهر بوضوح تام في واقع حياة المؤمنين بشمول وتكامل في مختلف جوانب هذه الحياة. وإننا لنجد في القرآن الكريم الذي نتلوه ليل نهار أمثلة واقعية متعددة لما يحدثه ذلك الإيمان من انقلاب في المفاهيم والمواقف ومن تغيير في واقعِ حياة من آمنوا بالله تعالى، فينقلهم من حال الضعف والعبودية والذلة والخنوع إلى حال العزة والكرامة والتضحية والبذل؛ حتى تسترخص في ذلك الأنفس وتبذل الأرواح؛ ولعل قصص القرآن في هذا الجانب لم ترد عبثا ولا لغوًا لا واقع له، وكلنا قرأ في كتاب الله تعالى قصة سحرة فرعون، عندما استدعاهم ليواجهوا موسى (عليه الصلاة والسلام) ويفندوا حججه المعجزة، أولئك السحرةُ الذينَ أتوا إلى فرعونَ وهم يستجدون عطاءه: «وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعمْ وإنَّكُم إِذا لَمنَ المُقَرَّبِين». كل الإغراءات بسطها لهم، ولأنهم متزلفون وجلون خاطبوا فرعونَ بعبوديةٍ ذليلة: «وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ». هكذا جاء السحرة ابتداء قبل أن يستبينوا الحق الذي جاءهم به موسى (عليه الصلاة والسلام)، فلما آمنوا واستقر الإيمان مباشرة في نفوسهم وصدقوا برسالته، غير الإيمان نفوسهم بالكلية؛ فإذا الذين كانوا يقولون بعزةِ فرعون إنا لنحنُ الغالبون، إذا بهم يتحولون عن ذلك تحولا تاما، ليعلنوا بكل قوة وصراحة إيمانهم: «قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ»، الأمر اختلف والخوف انتفى عنهم ودبت فيهم روح جديدة ترفعهم وتسموا بهم عن ذلك الإستجداء الرخيص الذليل أو الطمع في القرب من مجلسه وتصدرهم فيه الذي أغراهم به فرعون ولم يبالوا بتهديده وتوعده لهم: «لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ»، فكان ردهم حازما وحاسما: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا». وقد استقبلوا هذا الوعيد والتهديد بصدق يقين أنهم إلى ربهم الحق منقلبون: «قَالُوا إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ». ما الذي غيَّر تلك النفوس الذليلة فتطلعت إلى العلو وتركت الدنيا بما فيها من امتيازات تحصلت عليها فاستعلت؟ إنه الإيمان، الإيمانُ الذي ما إن يباشر القلوب الصادقة يثبت فلا يجزع ولا يخضع ولا يخنع ولا يلين؛ بل يقف في قوة وثبات، ووعي وإدراك مستعليا بإيمانه، فيعجز الطغيان بكل ما يملك من سلطة وجبروت ومن سلاح الترغيب والترهيب عن أن يصرف تلك القلوب المؤمنة عن ثباتها على إيمانها، إذا ما رغبت واعتصمتِ بإيمانها بالله تعالى. هذا مثال واحد على صدق الإيمان والثبات عليه قصه علينا القرآن الكريم يستبين لنا من خلاله أن الحق أقوى من الباطل، وأن الثبات عليه من شيم المؤمنين المتقين مهما كانت الصعاب التي سيواجهون بها فإنهم يقابلونها باستخفاف: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا». ولقد اقتربنا من شهر رمضان المبارك، شهر زيادة الإيمان، شهر التغيير لحال العرب من الحال الجاهلية بكل ما تعنية وتحمله كلمة الجاهلية من مفاهيم ومعان مادية ومعنوية. لقد تغير حال العرب من الأمية والهمجية والعنجهية، والتشرذم والفرقة والتقاطع، والعداوة والتدابر والتنافر فيما بينهم على أتفه الأسباب، نعم هكذا كانوا في عداوات دائمة وغارات غادرة، وثارات مهلكة متواصلة!! يغزو بعضهم بعضا محصورين في الجزيرة العربية.. فإذا بهم يصبحون من بعد تلك العداوات الطاحنة بنعمة الله تعالى إخوة متحابين: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون». ولعل حال أمتنا العربية اليوم على الرغم من إسلامها أقرب في تشرذمها وعداواتها وتفرقها من تلك الحالة القديمة، كل ذلك أمر يشرحه الحال بأبلغِ من كل مقال!! حتى غدت أمتنا نهبا لكل قرصان قاطع طريق، تكالبت علينا أراذل الأمم تنهشنا من كل جهة وجانب، احتلت أرضنا واستباحت دماءنا ونهبت خيراتنا واستنزفت مكتسباتنا ومقدراتنا ونحن نضحك ونلهو فاغري الأفواه، أليس هذا هو حال الواقع المشاهد؟! إن المتابع لحال أمتنا العربية الإسلامية يلحظها بحالتها هذه وكأنها تقاد إلى شفا الحفرة التي أنقذنا الله منها، ولذلك تكون الحاجة إلى تغيير هذا الوضع، وزحزحة الأمة عن هذه الحفرة الهاوية، مطلبا ملحا لا يحتمل التروي ولا التأجيل، ولكن كيف السبيل إلى هذا التغيير المنشود؟ هل ننتظر التغيير ونستجديه من أروقةِ الأممِ المتحدة، بكل وسائل الاستجداء المذلة التي نراها اليوم عن طريق التنازلات والمساومات المهينة؟! إن للتغيير كما ذكرنا ابتداءً طريقا واحدا محدد في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» نعم، كان العرب على هامش التاريخ لم تكن لهم حضارة، ولم يكن لهم من ذكر الغزو والغارات، بعضهم يتبع قياصرة الروم، وبعضهم يتبع أكاسرة الفرس، إلى أن جاء التغيير العظيم ببعثة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- برسالة الإسلام الهادية ونزول القرآن الكريم، فآمنوا وأسلموا لله تعالى، فتغير حالهم فذهبوا في الأرض فاتحين ينشرون الهداية والنور، ويقيمون موازين القسط والعدل بين العالمين، فهدموا عرش كسرى في فارس، وقيصر في بلاد الشام، ودكوا وقوضوا قوتَهما ورفعوا راية الإسلام. ما الذي غيَّر العرب حتى فعلوا ما فعلوا؟ الذي غيرهم هو الأمر ذاته الذي غيَّر سحرة فرعون؟! لقد غيّر العرب ما بأنفسهم فغّير الله ما بهم. هنا مكمن الحقيقة التي لا يمكن أن تمحى تحت أي قوة أرضية كانت؛ لأن الأمة العربية الإسلامية قدرها في التمكين والعزة في الأرض يكمن في إيمانها بربها وتمسكها بإسلامها!! ولذلك علم أعداء الإسلام والأمة هذه الحقيقة ابتداءً من إبليس الملعون رأس الشر، إلى فرعون الهالك، إلى كل الطغاة والمستبدين على مدى التاريخ والذين تواصوا بالباطل لإفساد عقيدة الإيمان بالله تعالى في كل زمان ومكان بشتى الوسائل الخبيثة والطرق الماكرة لصرف الناس عن الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله تعالى لعباده. ولذلك كان الإرجاف الذي سبق إليه فرعون يوم اتهم موسى -عليه السلام- قائلاً: «إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أو أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ». موسى في فرية فرعون وكذبته هو من سيأتي بالفساد، ما الفساد الذي يعنيه فرعون وكل الطغاة من بعده، إنهم يعنون بذلك أنه وأمثاله من المصلحين سيفسدون عليهم حكمهم وكيانهم وطغيانهم واستبدادهم وجبروتهم. وهكذا نرى عبر التاريخ كله التهمة ذاتها توجه إلى كل الأنبياء والمرسلين والمصلحين، تشاع هذه التهمة وتردد على مسامع العامة وتكرر أمام الشعوب لتقف حائلا يحول دون هدم فساد المفسدين الحقيقيين والعابثين وأصحاب اللهو والمجون، يقول تعالى: «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ». ستظل هذه التهمة موجهة إلى المصلحين، ليس إلى الصالحين وإنما إلى المصلحين في أي زمان وأي مكان كانوا للسبب الذي ذكرناه آنفا؟! إننا في شهر التغيير الذي تغيرت فيه أمة العرب -كما أسلفنا- يوم كانت على هامش التاريخ والحياة، وعلى شفا حفرة من النار؛ حتى غدت هذه الأمة أعظم أمة وخير أمة أخرجت للناس، وسجلها التاريخ بأحرف من نور على صفحاته، واليوم يبذل أعداؤها جهدهم من أجل إبعادها عن هذا الشهر الكريم وإشغالها عن تقوية إيمانها بالعبادة الخالصة فيه لمعرفتهم المعرفة الأكيدة أنها لو التفتت إلى كتاب ربها وهدي نبيها -صلى الله عليه وسلم- وتمسكت بهما كما ينبغي عليها، لما استطاعت تلك القوى العادية أن تقف ساعة في مواجهتها، ولهذا نجدهم ينفقون الأموال الطائلة ويمكرون مكر الليل والنهار حتى لا تستيقظ الأمة مما هي فيه، فيشغلونها بحروب متعددة الأوجه من عسكرية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها.. وأخطرها الحرب الثقافية الموجهة إلى هوية الأمة بأكملها وبخاصة شبابها وشاباتها وعلى سبيل المثال من تلك الحرب الضروس ما يبث عبر الفضائيات والقنوات التلفزيونية من لهو وعبث ومجون يخدش الحياء ويجرح الصيام، وذلك بما يعرض من خلال شاشاتها من مسلسلات هابطة موجهة بإتقان، ومسابقات تافهة ومقابلات متدنية مع كل أشكال الهابطين والهابطات، ويصرف النظر عن علماء الأمة ومبدعيها في كل مجالات العلوم المختلفة النافعة التي ترقى بالأمة!! نعم، إنهم يصرفون الأمة عن مقاصد هذا الشهر المبارك العظيمة، وفضائله الخيرة التي تقوي في المسلم إيمانه وتوعيه بواجبه المنوط به نحو دينه وأمته ووطنه، إنهم لا يريدون لنا أن نتقدم ونتطور بدليل أننا لا نصنع شيئا من احتياجاتنا الضرورية؟! لذلك يلهوننا بتلك الترهات الضالة والمضلة والمحبطة للأمة!! فهل نحذر هذه الفضائيات والقنوات الشيطانية المشبوهة ونلتزم الصراط المستقيم، صراط العفاف والتقى والعلم والعمل، ونحفظ علينا شهر رمضان المبارك بما نرضي فيه ربنا ليتحقق النصر والعز والتمكين لأمتنا العربية الإسلامية.. يقول تعالى: «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، ويقول تعالى: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
مشاركة :