آيات في الآيات (10): «...هم أحسن أثاثًا ورِئيا»

  • 5/26/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كلما قرأت القرآن شعرت أنّ روحي تهتز داخل جسمي «غوته» ولا أُبالغ أن قشعريرة سرت في أوصالي لمّا قرأت شهادة شاعر ألمانيا وابن الحضارة الأوروبية، لأنها كلمة شاعر وفيلسوف مرموق في العالم ذو إحساس رقيق وشعور مُرهف، فالحمد لله كله والشكر لله لأني صدفت هذه العبارات أثناء انشغالي بالبحث عن روائع القرآن والدقة المُتناهية في ألفاظه ومفرداته التي جعلت روح غوته تهتز بجسمه وهو ينتمي إلى لسان غير لساننا. وقفتنا عند هذه الآية في هذا المقال لنجمع ونفُرق في عين الوقت، نجمع الكلمات القريبة من الأثاث من القرآن مثل متاع وفُرش وريش بالإضافة إلى الأثاث ونُفرق بينهما مما يجعلنا نتذوق الحلاوة القرآنية حسب وصف الوليد بن المُغيرة، ونتشارك مع غوتة في لحظات اهتزاز الروح القادمة من طلاوة القرآن، فلك يا الله الحمد على نِعمة القرآن، ففي سورة مريم يقول الحق سبحانه وتعالى «وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثًا ورِئيا» الأثاث هو الجديد من أثاث البيت والموضوع بنسق وترتيب يسُر الناظر ويُدخل البهجة على من يراه، والأثاث مخصص للجلوس فقط، وهو دال على النِعم التي يتمتع بها الفرد، وينعكس من ذلك الجديد والمصفوف بعناية راحة نفسية وطمأنينة، وتشير كلمة رئيا إلى التمايز التي يرغب الناس الحصول عليها بفطرتهم إلا من زهد وآثر الآخرة على الدنيا، وهنا تبرز الاختلافات بين الأثاث والفُرش التي لا تكون إلا للنوم والاتكاء، وسورة الرحمن هي سورة النعم التي تبسَّط القرآن بذكرها ومنها الفرش «متكئين على فُرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان» وفي سورة الغاشية أشار القرآن لوسائل الراحة المُعدة للفائزين يوم القيامة «فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة» هذه كلها تتبع الأثاث والفُرش التي يُؤْنس بها، وهذا ما يحاول الناس كل الناس توفيره في بيوتهم ومستقرهم، وهذه النِعم من أعظم البواعث على الشكر وتقدير النِعم، ولا أخال أن هناك شكرا أجل واسمى من النظر للآخر بعين العطف والرحمة من المُحتاجين والمساكين والفقراء حتى نكون خير من استلهم القرآن سلوكًا وأفعال «وإذ تأذن ربكم لئِن شكرتم لأزيدنكم ولئِن كفرتم إنّ عذابي شديد» وقال تعالى «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون» الدخول في دائرة المعاني التي تحملها الآيات السابقة من صفات الشاكرين والحامدين، والحرص على ألا نكون في نطاق الذم المُشار إليه في قوله تعالى «إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون». الريش أيضًا له علاقة وثيقة بما ذكرنا ولكنه يحتفظ بخصوصيته الخاصة فهو المشهور من ثياب الزينة التي يرتديها الناس في مناسبات خاصة، ثياب تُظهر الإنسان بأبهى حُلة، وهناك أيام خاصة عند كل شعوب الأرض يلزمها أعراف وقيم خاصة وملابس خاصة أيضًا، فنحن المسلمين عندنا يومان مميزان في السنة هما عيد الفطر وعيد الأضحى، حيث يرتدي صغارنا وكِبارنا أفضل ما عنده من الريش «الثياب» وهناك توجيه نبوي كريم لأخذ الزينة عند كل مسجد بما في ذلك يوم الجمعة الخاص بنا كأمة محمدية، وهنا تتميز زينة المساجد بهويتها الخاصة عن بقية المناسبات الاجتماعية التي يتزين لها المسلمون بما آتاهم الله من فضله «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين». والزينة هنا أقرب لستر العورة منها لأي شيء آخر لأننا نعرف كيفية الطواف حول البيت قديمًا وهم عُراة رجالا ونساء، والإنسان بهذا المظهر هو سوأة فأمر الله بأخذ الزينة بهدف الستر أولاً ثم الظهور بمظهر أفضل من ذي قبل، ولكن الرياش تكون مرحلة متقدمة على الزينة وبعدها، ويبقى أن ننظر إلى المتاع المرتبط بالمفردات السابقة، فالمتاع بين هذه المنظومة الخاصة بحياة الإنسان يأتي، بحسب بعض العلماء، أنه الأشياء والأجهزة التي تدوم طويلاً وتجعل الحياة في البيوت ممتعة ومُريحة ولينة «ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير بيوتكم فيها متاع لكم...» وكذلك قوله تعالى في سورة الرعد «ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله». والحلية هي الذهب والمتاع هي المعادن وما يصنع منها من أدوات مُعمرة، وهذا بحسب اجتهاد بعض العلماء وفيه من الوجاهة ما جعلني أورده ضمن هذه السياق. وأيًا كان حظنا من الصواب في هذه التفرقة، فإنه لا بد من إيراد ملاحظة أكدها القرآن تأكيدًا كثيرًا، حيث يعقب الكتاب الحكيم بعد ذِكر أي من ملذات الدنيا بكلمة «قليل» أو ينسبه إلى الدنيا التي لا تعدل جناح بعوضة عند الله، أو وصف تلك االمُتعلقات الدنيوية بأنها متاع الغرور، ويُشتم من تلك الأوصاف بأنها يجب أن تكون بحدود، وألا تطغى على حياتنا كمسلمين ندرك أنّ استقرارنا ليس في هذه الدار. كل ما سبق ينضوي تحت عنوان نِعم الله على العباد بالعنوان العريض ولا مجال للدخول بالتفريعات المرتبطة به من حيث الأحكام وما شابه من أُمور، لأن مهمتنا التفريق بين كلمات القرآن والخروج منها بما نطيقه ونقدر عليه من عِظة أودعها الله ضمن تلك النِعم، ولا أرى أجدر من هذا الشهر المُتسيد على شهور السنة من أن نتلمس أفضل السُبل للحفاظ على تلك النِعم ولا يكون ذلك إلا باتقاء شُح الأنفس، وللشيخ الجليل حسن البصري لفتة في غاية الجمال حيث يقول: قرأت في تسعين موضعًا من القرآن أن الله قدر الأرزاق وضمنها لخلقه، وقرأت في موضع واحد «الشيطان يعدكم الفقر...» فشككنا في قول الصادق في تسعين موضعاَ وصدقنا قول الكاذب في موضع واحد، قول بليغ ومؤلم لأنه هذا هو لسان الحال عندنا، وهو بخلاف لسان المقال الذي يتبجح به الكثير من الناس في المجالس، وإنه لقول لمن تفكر فيه جيدًا في غاية الخطورة ويمس عصبًا حساسًا في العقيدة وهو التوكل على الله فعلاً قبل قولاً، وهو قول بذات الوقت مدعاة لأن يُراجع كل امرئ نفسه ليعرف المكان الذي يقف عليه والمسافة التي تفصله عن التوكل أهي بعيدة فيقربها ويعمل بما نصت عليه المواضع التسعين التي أشار إليها البصري رحمه الله وينبذ وراء ظهره ذلك الموضع اليتيم الذي لا يُرجى منه خير قط، وأنا أقرأه بأننا أمام خيارين لا توسط بينهما إما الله وإما الشيطان ووعوده الزائفة بالفقر ليمنع عن أهل الاستحقاق استحقاقاتهم المنصوص عليها، أولم نقرأ «وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم»، رمضان فرصة عظيمة لدحر وسواس الشيطان وضغط الأنا لصالح ذوات عديدة لها حقًا علينا والله يجزي الشاكرين. عاطف الصبيحي

مشاركة :