آيات في الآيات (24): «قال رب أرني أنظر إليك»

  • 6/9/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لا بد أنّ القارئ الكريم استشف من العنوان موضوع البحث الذي سيكون محور هذا المقال، ألا وهو كلمتي «أرني أنظر»، محاولين تبيان الفرق بين مفردة النظر والرؤية المشتقة من الفعل رأى وما يقاربهما من ألفاظ تتقارب إلى ما دون التطابق مثل «أبصر» و«شهد»، لنقف مرة تلو المرة على دقة كتاب الله العظيم، ولنثبت أن كل كلمة من القرآن مهما تشابهت مع مثيلاتها ستظل هناك شعرة قائمة بينهما لتتمايز الكلمات المتقاربة جدا فيما بينهما بحيث أن كل كلمة ترسم زاوية للمشهد الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يرسمه ثم تأتي شقيقتها الأخرى لتُكمل الزاوية الأُخرى حتى يكتمل المشهد المرسوم بالكلمات بدقة القرآن المعهودة والتي يلمسها كل ذي بصيرة. لنستعرض آية نعالج من خلالها معاني «أرني» و«أنظر»؛ ففي قصة خليل الرحمن مع ولده المعروفة للقاصي والداني -معرفة ظاهرية- قال يا بُني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى... هذه الآية رقم 102 من سورة الصافات. المأزق يتجلى لو اعتبرنا أن أرى في أول الآية بنفس معنى أرى في نهاية الآية، فأرى بمعنى الرؤية الفؤادية ولا تدل على الرؤية البصرية والتي تختلف عن الثانية التي جاءت بمعنى الرأي والتي لا تلتقي مع نظيرتها أبدًا من حيث المعنى، فالخلاصة الأُولى والتي نسأل الله أن تكون صحيحة أن للرؤية مجالين: مجال العين ومجال الفؤاد، وهي في حالة سيدنا إبراهيم فؤادية لأنها في المنام، ويسترعي انتباهنا أيضًا أن الفعل «أرى» جاء في صيغة المضارع ليدل على تكرار نفس الرؤية، ولم يقل رأيت وهذا فرق كبير ذو دلالة ليس هذا مكانها. ولننظر أيضًا إلى الآية 50 من سورة البقرة: «وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون»، فهنا النظر بمعنى البصرية المادية. والنظر يعني توجيه جهاز النظر «العين» نحو شيء ما لإبصاره أو رؤية حدث معين وهذا يفارق بالمعنى كلمة «شهد» التي تأتي بمعنى حضر وليس رأى «فمن شهد منكم الشهر فليصمه»، الشهادة هنا هي الحضور وليس الرؤية، وهذا ما قال به السيوطي رحمه الله، فعندما يشهد الجندي المعركة فهو حاضر فيها مشارك في أحداثها بحسب موقعه واختصاصه. ولتأكيد معنى الرؤية البصرية لكلمة «نظر» نستشهد بالآية الكريمة رقم 259 من سورة البقرة «فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك»، فهي رؤية عين بكل ما في العين من أجزاء تتشارك وتتعاضد في تحقيق رؤية الطعام والحمار وقد تلحق «تاء الجهد» على الفعل فيصبح الفعل «انتظر» مصداقًا لقوله تعالى في سورة يونس الآية 102: «فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين»، يتحول المعنى هنا إلى الترقب والانتظار مع ما يتضمنه الانتظار من جهد ومشقة، وإذا دخلت الألف المتعدية على الفعل يتحول المعنى أيضا ليصبح (أمهل، أجّل) ومصداق ذلك قوله تعالى: «وإن كان ذو عُسرة فنظرة إلى ميسرة» الإمهال هو المقصود. والخلط يحدث عند ورود البصر، فهو يعني عملية الرؤية بحد ذاتها والتي تختص بها العين مثل السمع كعملية تختص بها الأذن، وعملية هضم الطعام كوظيفة عضوية، وكلام الله يوضح ذلك «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة» (البقرة: 7)، «قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا يتفكرون» (الأنعام: 50)، وكذلك قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير» (الأنعام: 103)، وباستعمال المجاز والذي يعتبر أسلوبا من أساليب القرآن البلاغية يصبح معنى الأبصار هو الإدراك، ومنها وردت البصيرة والتبصرة «تبصرة وذكرى لكل عبد منيب» (ق: 8)، وقوله تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة» (القيامة: 14). وللسياق دوره الحاكم في كثير من الآيات لتحديد المعنى لأن القاموس العربي زاخر بكلمات تحمل أكثر من معنى، ولا توجد كلمتان تحمل نفس المعنى في القرآن الكريم، لذا يلعب السياق دورا أساسيا في هكذا حالات. حبانا الله بكتاب يتصف بغنى منقطع النظير، فمنذ نزوله على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو مفتوح للقراءة ولم ينضب معينه، وكل جيل من الأجيال يجد فيه حاجته ومراده، وكل تطور للغة لا يزيده إلا بهاءً، وكل اكتشاف علمي جديد لا يزيده إلا سناءً ورفعة، وتتعاقب عليه العقول والأفهام والدارسون والباحثون من المؤمنين به ومن غير المؤمنين، فلم يحدث إجماع كما حدث على تماسك هذا الكتاب وغناه المعرفي بالإضافة إلى ثرائه اللغوي الذي أعجز الأولين والآخرين، ولهذا فإني كثيرًا ما أعمد إلى تصدير المقال بقول مُقتبس لأحد أساطين العلم الغربيين حول القرآن، ولدينا مزيد من تلك الأقوال، فهلا أعطيناه بعض حقه بصرف بعض الجُهد والوقت لتدبره، كل بحسب معارفه وقدراته، ليعطينا بعض مكنوناته ودرره المخبوءة في أعماقه، هذا ما نرجوه ونأمل رؤية مزيد من الدراسات القرآنية من جوانب عِدة موظفة أحدث ما توصلت إليه العلوم الحديثة. عاطف الصبيحي

مشاركة :