قيل قديمًا إن كل فن هو وليد عصره الذي ينبع منه، ويمثل الإنسانية بقدر ما يلائم الأفكار وتطلعات الإنسان.. والفن عامة، والجداريات خاصة، هو لغة فريدة أوجدها الفرد منذ القدم لتكون ذات مضامين وتعابير خاصة يفهمها المجتمع من حوله بعد ذلك، فنبعت أهمية أعمال الجداريات كفن مجتمعي يتصل بالفاعلية والتواصل من الدور المهم في تزيين العناصر المميزة والضرورية في الشكل المعماري والذي يكسب مساحة بارزة بقيم فنية تشمل علاقات تفاعلية وحركية في البناء المعماري. ولقد كان الإنسان منذ القدم ترهقه كعادته الضغوط المتكالبة في حياته الأولى، ما يدفعه أحيانًا إلى إيجاد متنفس له عن طريق إشغال نفسه بما يمارسه من نشاط، وبذلك يحاول التعبير عنه بقيامه بالرسم على جدران الكهوف التي يؤوي إليها ومداخلها وسقوفها، حيث يتناول نقوش الحيوانات المختلفة مثل الغزلان والظباء والأيائل والثيران أو الخيول البرية وبعض الكائنات الخرافية إلى جانب مشاهد الصيد والقنص، فيعبر عنها بالرسوم والنحت والحفر عن طريق الرسوم والنقوش الجدارية! تسجيل الصور على الجدران: ومنذ بدء الخليقة دأب الإنسان القديم على القيام بتسجيل تلك الصور المتباينة من حياته اليومية على جدران الكهوف التي يختبئ فيها أو مواقع استقراره، ولم تكن غالبًا مسكنه ومكان إقامته.. وربما عبرت تلك الرسوم الزخرفية الملونة عن مخاوفه وآماله وتطلعاته، وقد امتدت هذه التعابير والرموز مع الزمن حتى قبل اختراع الكتابة، ما ساعد على إيصال أفكاره ومعتقداته إلى جانب تزيين وزخرفة منزله ومعبده بمختلف الرسوم.. وقد تكون لأغراض البحث عن وسائل حمايته وتوقي الأخطار، أو الآثار التي قد تحيق به يومًا رغمًا عنه. أهمية استخدام الجداريات: تعتبر بعض الرسوم الجدارية بمثابة وثائق تاريخية تزود الآخرين بمعلومات قيمة عن تاريخ الأديان والعبادات والمعتقدات والطقوس التي تشير إلى بداية التأمل الديني والروحي في الماضي وفيما سبقنا من أزمنة وعهود غابرة، لقد كانت ترهق الإنسان القديم بين آونة وأخرى بعض الضغوط والظروف العسيرة في حياته الأولى، ما يدفعه إلى إيجاد هواية تلهيه عن طريق ما يرسمه أو ينحته أو ينقشه على الحيطان والسقوف. ويشير ذلك إلى أن الإنسان طور تقنيات الرسم والتلوين وممارسة الفن الزخرفي والحفر الجصي والتعبير الجمالي مع تطور حياته المستقرة واختراعه عديدا من أدوات الصناعات التي جعلت من حياته أكثر راحة وأمانة وسلامة واستقرارا، ما يجعله اكثر تقبلاً لمواجهة تقلبات الحياة ورغبته في الإيفاء بمتطلباته المعيشية. الجداريات ووسائل الاتصال الجماهيري: ومع تطور المدنيات الأولى في الشرق الأدنى القديم خلال الألف الرابع قبل الميلاد، كان الإنسان قد بدأ بناء البيوت والأكواخ والقصور المتواضعة والمعابد، وراح يزين أرضياتها وساحاتها وجدرانها بالرسوم الزخرفية بالصدف والخشب وقطع المعادن أو العاج، واللوحات الملونة الجميلة المنمقة تمثل أولى الزخارف الجصية وفنون الفسيفساء المعروفة وفن الجداريات فيما بعد. وفي العصر الحديث تعتبر بعض الجداريات من أهم وسائل الاتصال الجماهيري والتقارب الاجتماعي؛ إذ إنها تظهر غالبًا في الأماكن العامة، ولا تحتاج إلى أي موقع من مواقع العرض أو إيجاد معارض فنية يرتادها المهتمون بالفن التشكيلي، كما قد تكون في عديد من الأحيان أداة مؤثرة وفعالة لتحقيق الأهداف الاجتماعية والسياسية والصحية ونظافة البيئة وغيرها، وفي الوقت نفسه تعبر عن تجميل المدن والساحات والأماكن العامة والخاصة، وقد تكون أحيانًا وسيلة دعائية ناجحة تثير الجماهير وتلم شتاتهم حول هدف قيم أو رغبة معينة. تنمية الزخارف لدى المسلمين: حرص المعماريون المسلمون على تنمية الزخارف النباتية وتزويقها، وفي مقدمتها زخرفة الحوائط والنقوش الجصية لجدران مبانيهم العمرانية، ولا سيما المدنية منها والدينية والرياضية، بشتى أنواع الزخارف، والغرض منها هو إكسابها نوعًا من الجمال والزينة؛ وذلك لإحساسهم المفرط وكراهيتهم لفكرة الفراع والبعد الفني في المبنى. وكانت تلك الزخارف والنقوش تشمل أعمال النحت المباشر على الحجر والحفر على المساحات الجصية لتحمل الزينة والنقوش وسط كسوات رخامية وجصية وخشبية إلى جانب كسوة أرضيات الغرف والصالات وجوانب المشايات والمداخل والواجهات ومرافق الاستقبال والاستراحات. ولقد تبوأ الفنانون المعماريون مهنة الحفر والنحت منذ العهود الأموية والعباسية والأيوبية وكذلك الفاطمية والطولونية، بحيث اقتصر حصرها على الأنماط الآتية: أولاً: النحت على الحجر والجص: وينقسم فن الحفر والنحت على الحجر والجص إلى نوعين من الحفر هما: الحفر الغائر والحفر البارز، أما الغائر فهو ما كان أعلى مستوياته موازيا لارتفاع سطح اللوح المنحوت فيها، بينما نجد الحفر البارز ينقسم إلى عدة أشكال كنحت خفيف البروز أو شديد البروز والنحت المائل والنحت المجسم.. وقد استخدم أولئك النحاتون المعماريون في المدن الإسلامية جميع الأنواع المعروفة لديهم! وقفة مهمة لا بد منها: أصبح معروفًا ان فن النحت في الحجارة أو الحفر على الجص مرتبطان بفن العمارة؛ حيث تمثل الوحدات المعمارية المختلفة، وهي الزخارف المحفورة على الواجهات والمداخل والافاريز والأعمدة والمحاريب والشرفات والكوابيل والسطوح والاستراحات وأعلى القباب والدهاليز والرواشن والمقاطع وغيرها. ثانيا: التصوير الجداري والفسيفساء والفريسكو: أ - مارس الحرفي المسلم نوعين من التصوير: الجداري أولاً، والمخطوطات ثانيا، فأوله ما كان على الحوائ،ط والثاني ما كان على الورق.. ويتصل التصوير الجداري اتصالاً مباشرًا ووثيقًا بالزخارف المعمارية كالتصوير بالألوان المائية على الجدران أو على الجص، وتنفذ الألوان على الجص أو الجبس وهو شبه رطب أي قبل تفاعله الكيميائي وجفافه لكي يتمكن الفنان من ممارسة زخارفه ونحته. ب - أما النوع الآخر فيتمثل في تصوير المخطوطات والكتب التاريخية والمؤلفات العلمية، فيتم تزيينها، وهي تتضمن الصور التوضيحية والرسوم الدلالية ووسائل التوضيح المعروضة لجلاء المادة العلمية! أمثلة من الزخارف الجدارية: اعتاد الفنانون المعماريون المحليون زخرفة الجدران وزخرفة الرواشن والبراويز (الفريمات) والأفاريز ودرفات الأبواب (المصاريع الخشبية) والشبابيك والمنافذ وجوانب الصالات والمجالس وقاعات الاستقبال (المقالط) والواجهات والمرافق المختصرة الخاصة بالنساء والقاعات المختصرة بالضيوف. أشكال الجداريات المعروفة لدينا: تمثل الزخارف الجدارية الجصية أشكالاً مقتبسة من بيئتنا المحلية وحياتنا اليومية، وهي ما تشبه (الودعة) القوقعة (والبيذانة) اللوزة والخطوط الزجزاجية (درب الحية) وغصون النخلة (السعفة) والبكرة والقعود وتدعى (علامة الزائد) والمراش (منافض ماء الورد) والبراعم المعقودة والصلبان المعكوفة (SWASTIKA) والخطوط المنكسرة (FRETS) والحبال المضفورة (GUILLOCHE) والمراوح النخيلية (PALMETTE) والمحارات المفصصة والزهرات والسلاسل الممدودة، وهذه المحفورات تشغل حيزًا ضيقًا من المساحات المتوافرة في المبنى! [الهوامش: المواعظ والاعتبار والخطط: تقي الدين المقريزي – القاهرة 1853م، مقدمة تاريخية عن الجداريات عبر العصور: المهندسة رنا قاسم مهدي، تاريخ النحت والتصوير: الدكتور ثروت عكاشة عام 1991م القاهرة، الفنون في دولة الإسلام: الأستاذ سعد زغلول عبدالحميد – الإسكندرية، الكامل في التاريخ: أبو الحسن علي ابن الأثير – بيروت 1987م].
مشاركة :