لقد كانت تجربة الحياة الدبلوماسية من أجمل التجارب العملية في حياتي، وخاصة أنني قضيت اثنتي عشرة سنة في اليابان، بعد أن انتهت مهمتي وزيرا للصحة بمملكة البحرين، وما أضاف إليها رونقا هو أنني كنت طبيبا وجراحا للأطفال، بالإضافة الى اهتمامي بالأبحاث العلمية ونشرها، لأنني كنت جزءا من الكادر التعليمي في كلية الطب بالجامعة. وقد أكد لي السفراء أن اليابان هي من أجمل البلدان التي تقدر السفراء، ومرتبط ذلك بكون السفير فوق العادة المفوض هو جليس للإمبراطور، حيث يدعى السفراء لعدة مناسبات خلال السنة لمقابلة جلالة الامبراطور، كمناسبة عيد ميلاد جلالته، ومناسبة عيد السنة الميلادية، كما يدعى السفراء لحفلة غداء خاصة مع الامبراطور، كما يقابل السفير جلالته حينما يصل الى طوكيو ويقدم أوراق اعتماده، وحينما تنتهي مهمته قبل أن يغادر البلاد، كما يشارك السفير في بعض المناسبات العلمية والثقافية والترفيهية مع العائلة الإمبراطورية، كزيارة مزرعة الامبراطور، وحضور سباق الخيل الامبراطوري، والمشاركة في رياضة صيد البط بالشبكة، وإعادة اطلاقها، بعد وضع مؤشر إلكتروني لمتابعة آلية هجرة الطيور. وترجع اهمية كون السفير جليس الامبراطور، الى خلفيات تاريخية حيث كان يعتبر الامبراطور من العائلة المقدسة، والتي ترجع أصولها الى آلهة الشمس، والتي تعني في مفهومنا الشرق الاوسطي ملائكة السماء، التي تراقب وتحافظ وتبارك رخاء العائلة الإمبراطورية والشعب الياباني وارض اليابان، كما يدعى السفير لعدة مناسبات حكومية وبرلمانية وسياسية وثقافية وتعليمية وتجارية. ومن أهم الدعوات التي كنت اتسلمها سنويا هي دعوة الحضور لجائزة نوبل اليابانية، والتي تسمى بجائزة «كيوتو»، والتي يقدم فيها سنويا جائزة أدبية ومالية لخيرة علماء العالم، الذين قدموا اختراعات جديدة، خدمت البشرية. وتتم هذه الاحتفالية خلال ثلاثة أيام، يقدم فيها في اليوم الأول الجائزة لثلاثة من رواد العالم في الابحاث العلمية، الاولى في مجال العلوم الاساسية، والثانية في مجال العلوم التطبيقية، والثالثة في مجال العلوم الإنسانية، ايمانا بضرورة ربط التوازن بين العلوم الأساسية والعلوم الإنسانية لخلق سعادة بشرية ابدية في الحياة. لقد أنشأ جائزة كيتو المهندس رئيس الشركة العملاقة كيوسيرا، السيد كازو اناموري، وهو من مدينة كيوتو التاريخية، وهي المدينة الثقافية لليابان، والتي كانت عاصمة اليابان سابقا. وقد اعطاني حضور احتفاليات هذه الجائزة على مدى اثني عشرة عاما فرصة لكي اتعرف على الكثيرين من خيرة علماء العالم، الذين ينالون عادة جائزة نوبل السويدية، بعد حصولهم على جائرة كيوتو، واتذكر ان هناك شخصيتين يابانيتين مهمتين في مجال الطب، وهما البروفيسور شن يامناكا، الذي اكتشف طريقة لإرجاع الخلايا الكهلة الى خلايا جنينية، سميت بالخلايا الجذعية، والتي يمكن بعد ذلك تحويلها الى أي نوع من الخلايا التي قد يحتاج اليها الانسان، كخلايا الشبكية لعلاج عمى النظر، او إلى خلايا تفرز هرمون الانسولين لعلاج مرض السكري، او لخلايا عصبية لعلاج مرض الزهايمر، او لخلايا قلبية لعلاج تموت او احتشاء عضلة القلب، بل يمكن ان «تصنع» أعضاء الجسم حينما تحتاج استبدالها بسب التلف المزمن. بمعنى انه سيكون من الممكن إذا أصيب مريض بهبوط بالكلية، فيمكن ان تؤخذ عينة من جلده، لتحول خلايا الجلد في المختبر إلى خلايا جنينية جذعية، ومن ثم تحول الى خلايا الكلية، وبعدها يتم بالطابعة الثلاثية الابعاد البيولوجية تشكيل كلية جديدة وزرعها في المريض المصاب. وقد سألت البروفيسور ياماناكا: «إذا تمكنتم من صناعة أعضاء جديدة للجسم بدلا من الأعضاء التالفة، فهل يعني ذلك أن الإنسان يستطيع أن يعيش عيشة أبدية؟» فرد علي البروفيسور الحاصل على جائزة نوبل للطب: «في تصورنا أن الكائن البشري لن يستطيع العيش أكثر من مائة وخمسة وثلاثين سنة، وذلك لأن الخلايا البشرية ستصل الى مرحلة الشيخوخة بعد فترة من الزمن، ولن تستطيع المحافظة على وظائفها بطريقة طبيعية». ليؤكد لي البروفيسور ياماناكا أن «الموت حق». وقد حصل البروفيسور ياماناكا على جائزة كيوتو في عام 2014، وبعدها بعامين حصل على جائزة نوبل في العلوم الطبية في عام 2016. والشخصية الثانية التي اتذكرها جيدا، الذي كان لي الشرف التعرف عليها هو البروفيسور تاسوكو هونجو، الذي حصل على جائزة كيوتو في عام 2016، وليحصل على جائزة نوبل العام الحالي 2018 في العلوم الطبية، عن أبحاثه في علاج السرطان بطريقة جديدة مبدعة. فمن المعروف أن علاج السرطان اعتمد خلال القرن الماضي على استئصال الكتلة السرطانية ومن ثم قتل الخلايا السرطانية المنتشرة في الجسم بالمواد الكيمياوية أو بالموجات الشعاعية. أما الطريقة الجديدة التي اكتشفها البروفيسور الياباني هنجو تعتمد على تقوية مناعة الجسم ليستطيع القضاء على الخلايا السرطانية المنتشرة في الجسم، وهي طريقة مخالفة تماما، لعلاج السرطان بالمواد الكيماوية التي تقتل الخلايا السرطانية، كما انها تقتل كثيرا من الخلايا الطبيعية في الجسم، وخاصة خلايا المناعة. ويتوقع البروفيسور هنجو أنه خلال العقود الخمسة القادمة أنه سيتحول علاج مرض السرطان الى علاج عادي، يتم الشفاء منه تماما، كعلاج الجراثيم بالمضادات الحيوية، لتنتهي تهمة المرض «العضال» المخيف عن السرطان، ولينتهي قرن من الزمن من المعاناة البشرية. ولتفهم أبحاث البروفيسور تاسوكو هنجو ليسمح لي عزيزي القارئ بمقدمة علمية. فطبعا نعرف أن جميع المواد الموجودة على سطح الكرة الأرضية مكونة من كتلة صغيرة جدا تسمى الذرة، والتي هي مكونة من ثلاثة أجزاء صغيرة، جزآن في المركز يسميان النترون والبروتون، وجزء آخر يدور في محيطهما وهي الالكترونات، كما يتكون الجسم البشري وباقي الكائنات الحية من وحدات ميكروسكوبية صغيرة تسمى الخلايا. وتبدأ حياة الانسان من اندماج نصف خليتين هما الحيوان المنوي والبويضة، ليبدأ تشكل مضغة الجنين بالانقسام المتكرر لهذه الخلية، لتتكون تريليونات من الخلايا البشرية، والتي ستكون مختلف أعضاء الجسم من الجلد حتى العضلات والعظام والقلب والكبد والمخ. والجدير بالذكر أن خلايا الجسم تستمر في الانقسام طوال حياة الانسان، وفي نفس الوقت قد يؤدي هذا الانقسام الخلوي الى تشكل خلايا مريضة، والتي يقوم جهاز المناعة في جسم الانسان السليم بالتخلص منها، من خلال افراز مواد تشل عملها، لتلتهمها بعد ذلك خلايا الدم البيضاء. ولنتذكر عزيزي القارئ أنه حينما تضعف مناعة الجسم ولا تستطيع القضاء على هذه الخلايا المريضة، لتستمر هذه الخلايا المريضة في الانقسام بشكل فوضوي متكرر، لتنتهي بما نسميه كتلة مرض السرطان. فباختصار شديد ومبسط، أن السرطان هو التكاثر الفوضوي للخلايا التالفة لتشكل كتلة سرطانية في أي عضو في الجسم، كسرطان الثدي وسرطان الكلية وسرطان الرئة وسرطان القولون. ويتم علاج هذا السرطان باستئصال الكتلة السرطانية، ثم إعطاء المواد الكيماوية، التي تقضي على الخلايا السرطانية، ولكنها في نفس الوقت تترافق بالقضاء على خلايا سليمة، فمثلا ظاهرة تساقط شعر الرأس مع العلاج الكيمياوي، تموت خلايا بوصلة الشعر، كما تترافق بقتل خلايا المناعة ككريات الدم البيضاء، ما يؤدي الى ضعف مناعة الجسم، وتعرضه لأمراض جرثومية خطيرة، وقد تكون قاتلة. لذلك فكر البروفيسور هنجو في سبب بدء مرض السرطان، والذي هو نتيجة لضعف مناعة الجسم، ودرس وبحث في معرفة الآلية التي تؤدي الى «فرملة» النشاط المناعي في الجسم، ما يؤدي الى الإصابة بمرض السرطان. وفعلا استطاع اكتشاف المادة التي تسبب فرملة او تثبيط نشاط خلايا المناعة في الجسم، ما أدى الى إجراء أبحاث معقدة لاكتشاف وسائل لشل هذه الفرملة التي تعطل عمل خلايا المناعة في الجسم، لتستطيع محاربة الخلايا السرطانية والقضاء عليها. وقد بدأ استخدام هذه الطريقة العلاجية على مرض سرطاني في الجلد يسمى سرطان الميلانوما، حيث كان هذا المرض السرطاني يقتل كل مريض يصاب به، على الرغم من محاولة الأطباء استئصال هذا السرطان الجلدي، وإعطاء المواد الكيماوية لقتل باقي الخلايا السرطانية المصابة، وبعد استخدام العلاج بتقوية مناعة الجسم بدأ يشفى بعض مرضى هذا المرض. وقد استطاعت ابحاث البروفيسور هونجو تحديد جين المورثات المسؤول عن «الالتهام الذاتي للخلايا»، فبأجسامنا منظومة شديدة التعقيد تمثل ما يسمى مجازًا جهاز المناعة، وهو بمثابة جهاز أمني فعال ومحترف، تمتد أذرعه إلى كافة أنسجة الجسم. يتصدى جهاز المناعة على مدار الساعة لملايين أو بلايين المحاولات لاختراق الجسم من الخارج من الفيروسات والبكتيريا وغيرها من الأجسام الضارة والغربية، وكذلك يراجع أولًا بأول أنشطة خلايا الجسم المختلفة، ليلتقط الخلايا التي تظهر سلوكًا خطرًا قد يسبب الضرر، مثل التكاثر الزائد عن الحد المطلوب، أو عدم الاستجابة لأوامر الانحلال الذاتي الطبيعي، أو أي اختلالات في الشكل أو الوظيفة، ومن ثمَّ تقوم خلايا المناعة بالتخلص منها، للحفاظ على استقرار الأوضاع وظيفيًا وبنائيًا في الجسم. فالسرطان بإيجازٍ شديد ما هو إلا تمرد بعض الخلايا على النظام الطبيعي في الجسم، وخروجها عن سيطرة جهاز المناعة، فتتكاثر تلك الخلايا بشكل مفرط، وتبدأ في غزو الأنسجة الملاصقة لها، وزعزعة بنيتها، وإخلال وظيفتها، وقد تنتشر عبر الأوعية اللمفاوية أو الدموية لتصل لأجزاء حيوية بعيدة كالمخ والرئتيْن والعظام فتفسدها. وغالبًا ما تستغل الأنسجة السرطانية ثغرات في منظومة المناعة بالجسم سبَّبتْها عوامل وراثية أو بيئية أو الإصابة ببعض الأمراض المزمنة، ففي قلب جهاز المناعة، هناك ما يعرف بالخلايا لللمفاوية نوع «تي» وهي أحد أنواع خلايا الدم البيضاء، وتعتبر خلايا «تي» بمثابة مايسترو جهاز المناعة في الجسم. تضم خلايا «تي» أنواعًا عديدة، أهمها خلايا «تي» المساعدة، والتي تعتبر صانع ألعاب جهاز المناعة، وتضطلع بالجانب الأكبر من تنظيم وتنفيذ رد الفعل المناعي ضد الأخطار الخارجية والداخلية، وخلايا «تي» القاتلة، وهي رأس الحربة الذي ينفذ تعليمات القضاء على الخلايا السرطانية، والخلايا المصابة بالفيروسات وغيرها. هناك أيضًا خلال «تي» المثبِّطة، والتي تفرز مواد تهدئ من نشاط باقي خلايا المناعة. وفي الوضع الطبيعي، يكون جهاز المناعة خاضعًا لتوازنات دقيقة بين أدوات عديدة لتحفيزه، وأخرى لتثبيطه، والحد من نشاطه. والغرض من وجود آلياتٍ لتحجيم نشاط جهاز المناعة، هو منعه من القيام بردود أفعال مبالغ فيها، قد تسبب ضررًا أكبر بكثير من ضرر أعداء الجسم أنفسهم، وكذلك تحول دون أن يتحول جهاز المناعة نفسه إلى خطر على الجسم، وعبءٍ كبيرٍ عليه، عندما يخرج عن النص، ويبدأ بمهاجمة أجزاء الجسم والإضرار بها، كما يحدث فيما يسمى بأمراض المناعة الذاتية. ولكن إذا طغت العوامل المثبطة على المحفزة، فإنها تكبت جهاز المناعة بشكل زائد عن الحد، وتترك الساحة خالية أمام الخلايا السرطانية، والتي يقوم بعضها باللعب على هذا الوتر، فتقوم بتحفيز الآليات المثبطة للمناعة وبذلك نكسرْ قيود وحش المناعة لكي يفترس السرطان جسم المريض. فباختصار شديد، بعد دراسة بحثية مستفيضة اكتشف البروفيسور مادة بروتينية تثبط نشاط الخلايا المناعية، وتؤدي الى استمرار الخلايا المريضة للتكاثر وتكوين الكتلة السرطانية، ولذلك قام بأبحاث طبية لاكتشاف طريقة لمنع هذه المادة من «فرملة» نشاط الخلايا المناعية، ولتقوي مناعة الجسم اضعافا مضاعفة، لتستطيع القضاء على الخلايا السرطانية وشفاء المريض. وفي الوقت نفسه قام البروفيسور جيمس اليسون من جامعة كاليفورنيا بركلي، بجهود بحثية كبيرة في نفس المجال لعلاج الامراض السرطانية، ليكون من نصيبهما معا جائزة نوبل في العلوم الطبية لعام 2018. ولنا لقاء.
مشاركة :