فرضت زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى المنطقة العربية هذه الأيام ضمن تساؤلات عدة، طرح علامة استفهام عن قضية العرب المركزية، أي القضية الفلسطينية، وأين تقع في سلم الأولويات والاهتمامات الأمريكية؟.. أو بمعنى أدق: هل بات لها بالفعل موقع أو موضع، سيما مع الضجة الكبرى المثارة منذ وقت طويل حول صفقة القرن، والتي تكاد تضحى ضجيجا بلا طحين..؟. كان من الطبيعي جدا للمراقب للشأن الأمريكي في تقاطعاته وتجاذباته مع الصراع العربي الإسرائيلي، أن يستدعي إلى الذاكرة أصداء خطاب أمريكي آخر، ذاك الذي جرت به المقادير قبل عشر سنوات إلا بضعة أشهر، وتحديدا في شهر يونيو من عام 2009، حين اعتلى الرئيس الأمريكي وقتها “باراك أوباما “، منصة الخطاب في جامعة القاهرة العريقة، ليلقى خطابا مخمليا، ويومها أشار صاحب هذه السطور إلى أن الرجل يتجاوز مقدراته الحقيقية، وأن ما يعطيه من الفم هو حديث لطيف، لكن لا حظ له من التنفيذ، وساعتها اعتبر البعض أن كلامنا نوع من أنواع إفساد العرس الأوبامي، وإن كانت الأيام لاحقا أثبتت صحة ما أشرنا إليه، بل أسوأ منها بكثير، إذ كان الرجل الذي ادعى أنه تجرأ على الأمل وبالا على العالم العربي، وداعما وزاخما للأصولية الاسلامية، وبإعتراف بومبيو نفسه منذ أيام. من جامعة القاهرة بسط أوباما حبل الآمال معربا عن دعمه الراسخ لحل الدولتين، وأكد متانة العلاقات التي تربط الولايات المتحدة وإسرائيل، غير أن ذلك لم يمنعه من أن يدين في الوقت نفسه السياسات الإسرائيلية التي قال إنها تقوض جهود حل أحد أطول صراعات العالم أمدا. في ذلك الخطاب التاريخي أظهر أوباما تعاطفا غير مسبوق ـ ولو ظاهريا ـ مع الفلسطينيين، إذ قال: “إنه ليس هناك أي شك في أن وضع الفلسطينيين لا يطاق، ولن تدير أمريكا ظهرها للتطلعات المشروعة للفلسطينيين، ألا وهي تطلعات الكرامة وتوافر الفرص وإقامة دولة خاصة بهم”. ومن على المنصة عينها بدا أوباما حاسما حازما إلى أبعد حد ومد، وإن كان حسمه وحزمه كلاميا، وبدون أي جذور على الأرض، مضيفا :”في الوقت نفسه، يجب على الإسرائيليين الإقرار بأن حق فلسطين في البقاء هو حق لا يمكن إنكاره مثلما لا يمكن إنكار حق إسرائيل في البقاء”. يعن للقارئ، وله في الحق الف حق أن يتساءل: ما هو حساب الحصاد الأوبامي تجاه القضية الفلسطينية..؟ أما الجواب فلا يخفى على أحد، انه الهباء المنثور، والصفر المربع أو المكعب، فقد أعطى من طرف اللسان حلاوة، وراوغ كأمهر من الثعلب، بل أن رئيسا أمريكيا منذ بداية مسيرة السلام بين العرب والإسرائيليين في عام 1977 لم يتقاعس مثلما تقاعس أوباما عن طرح رؤى أو فتح مسارب للسلام، ناهيك عن احتضانه لمباحثات تحت رعايته، عسى أن يتوصل الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني لنهاية لصراع دام لأكثر من سبعة عقود. لم يكن شغل أوباما الشاغل في واقع الأمر، لا سيما خلال رئاسته الأولى القضية الفلسطينية بالمرة، فالرجل كانت لديه أجندة خفية أخرى ظهرت بعد أقل من عام على خطاب القاهرة، أجندة تمكين الراديكاليين الاسلاميين من الشرق الأوسط، والتفرغ للصراع مع دول شرق آسيا، لا سيما الصين وروسيا، الأمر الذي تبدى من خلال إستراتيجية التمدد نحو الشرق الآسيوي كدرب رفيع من دروب إستراتيجية المحافظين الجدد المتمثلة في صبغ القرن الأمريكي بصبغة أمريكية مطلقة. ثمان سنوات انقضت من حكم أوباما، وإسرائيل تقتطع من الأراضي العربية المزيد والمزيد، وتبنى المستعمرات، وتهود القدس، وتسرق المياه، وتستخدم أقصى درجات العنف تجاه الشعب الفلسطيني، من دون وازع أو رادع، إلى أن تسلم القيادة الأمريكية منه رئيس ليس له دالة بالمطلق على العمل السياسي، ومنبت الصلة بالشؤون والصراعات الدولية، ولا دائرة عمل له الإ صفقات البيع والشراء والعقلية “الماركنتيلية”، عطفا على البراجماتية الأمريكية التقليدية المعتادة. نقلة واسعة عبر عشر سنوات من خطاب جامعة القاهرة إلى خطاب الجامعة الأمريكية والتساؤل: ما الجديد الذي جاء به بومبيو فيما خص القضية الفلسطينية..؟. الشاهد أن الحديث يمكن أن يمضي في إطارين: الأول يتصل بشخص بومبيو نفسه، والآخر برئيسه ترامب. أما بومبيو فهو رجل دوجمائي ينتمي للطائفة المسيحية الإنجيلية، وهي وثيقة ولصيقة الصلة بإسرائيل وبالتنبؤات التي يفسرها البعض بأنها موصولة بحتمية قيام دولة إسرائيل، وبقضايا مثيرة للجدل اللاهوتي كالملك الألفي، وموقعة هرمجدون. والرجل في مستهل كلامه في خطابه الأخير أشار إلى أنه يحتفظ بالكتاب المقدس على مكتبه مفتوحا ليذكره بالله وكلمته وبالحقيقة، وليس في هذا أمر سيئ بالمطلق، لكن الخلفية الايمانية المطلقة عندما تختلط أوراقها مع شؤون وشجون السياسة النسبية، تضحى مساحات الخطأ والخطل عريضة جدا، وهذا هو حال وعمق الإشكالية الفلسطينية. في كلمات قليلة عمومية سطحية، تناول بومبيو القضية بالقول: “إن إدارة ترامب ستستمر في الضغط من أجل الوصول إلى سلام حقيقي ودائم بين إسرائيل والفلسطينيين”، ولم يأت الرجل على ذكر حل الدولتين بالمرة، فيما أشار إلى دعم بلاده لإسرائيل مرات عديدة طوال خطابه، وبين للحضور كيف أن الرئيس ترامب صادق فيما وعد به، وقد نفذ وعده الذي قطعه على نفسه بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، الوعد الذي يسر له كتلة إنتخابية تقدر بملايين الأصوات في الداخل الأمريكي من تيار اليمين الاصولي، والتي راهن عليها مرة جديدة من أجل إعادة انتخابه كرئيس في العام 2020. لم تكن القضية الفلسطينية في صلب خطاب بومبيو، لأنها في الأصل تأتي في مرتبة لاحقة بالنسبة لإدارة ترامب، ولن نشهد حكما حديثا مجددا من حولها إلا بعد الانتخابات القادمة في إسرائيل، وما هو مرشح للسماع إرهاصاته تعني القضاء على ما تبقى من ثوابت القضية برمتها. خطاب بومبيو يكشف لنا أن اهتمام إدارة ترامب يتمحور حول إيران بوصفها حجر العثرة الأول والأكبر في المنطقة، وهذا صحيح من جهة، لكن الأمريكيين يريدون أن يصطادوا عصفورين بحجر واحد، أي ضرب المشروع الإيراني خليجيا وشرق أوسطيا، وفي ذات الوقت إدماج إسرائيل في مشروع التحالف الشرق أوسطي، والذي ستتضح معالمه وملامحه في المؤتمر الذي سينعقد في بولندا في فبراير المقبل برعاية أمريكية، من أجل بلورة الطريق لتغير جيوبولتيكي جديد في المنطقة. من خطاب أوباما، إلى خطاب بومبيو، لا يخشى المرء القول أن الدعم والزخم العربي للقضية الفلسطينية قد فتر، ربما من جراء الأزمات المتلاحقة التي عاشتها المنطقة خلال سنوات الربيع العربي المكذوب، وتفتت دول كانت تعد أعمدة خيمة في الجسد العربي، واهتراء النسيج العربي الداخلي والبيني. وعلى صعيد آخر لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية محمومة أو مهمومة بهذا الصراع الآخذة أهميته لها في التقلص بالنسبة لها، بسبب معطيات جديدة جيواستراتيجية على الأرض. هل يعني ذلك اضمحلال القضية ؟ بالقطع لا يمكن أن يكون ذلك كذلك بالمرة، لكن الرسالة المؤكدة هي أن القضايا المحورية والجوهرية طرحها يبدأ من الذات لا من الآخرين، والخوف أن تكون الذات العربية عامة والفلسطينية خاصة في مأزق حقيقي وغير قادرة على المبادرة والمبادأة في الحال أو الاستقبال.
مشاركة :