في أيةّ زيارة لي إلى القاهرة عادة تكون وجهتي الثقافية الأولى مكتبة بيع الكتب بالجامعة الأمريكيّة لاقتناء مجموعتي الخاصة من مجلة «ألف»، مجلة البلاغة المقارنة. لقد أسهمت هذه المجلة منذ بداية إصدارها قبل عقود مضت في تأسيس نقديّ حقيقيّ لعمليات المثاقفة بين الآداب والفنون من خلال استقطاب بعض المحاور النقدية المهمة جدًا للاستكتاب الذي يشارك فيه عدد من أهم النقاد العالميين إلى جانب باحثين عرب. ولذلك أعد هذه المجلة بمثابة إضافة عربيّة حقيقيّة في النقد العالميّ لكسر المركزية النقدية الأوروبيّة. من المصطلحات النقدية المهمة التي اشتغلت عليها هذه المجلة النقدية الرصينة مصطلح «أدب العالم»؛ فقامت بتفكيكيه وتخليصه من أسر النظرة الأحادية الأوروبيّة المهيمنة عليه منذ بدء اجتراحه نقديًا. لقد تحدَّث جوته عن مصطلح «أدب العالم» لأول مرة في عام 1827 وفقًا للتراث الرومانتيكي الذي ينتمي إليه، ويعني به أنساق التعبير الناشئة التي استخدمتها دول أوروبا للتواصل وإقامة أسس التفاهم والتعايش المتبادلين. ولم يكن المقصود من هذا المفهوم تحقيق أدب كوني جامع شامل. وقد ظهرت فيما بعد بعض النماذج النظرية الفلسفية لهذا المفهوم عند كل من فرانكو موريتي في كتابه «الرسم البياني والخرائط والأشجار» وباسكال كازانوفا في كتابه «الجمهورية العالمية للآداب» وعند ديفيد دامروش في كتابه «ما هو أدب العالم؟». اعتمدت هذه النماذج النظرية الفلسفية لـ«أدب العالم» على أحادية لغوية جعلت موريتي، على سبيل المثال، يعتمد حتى في قراءته للنماذج السردية المحلية على تلك النماذج المكتوبة باللغة الإنجليزية فقط، في حين أُقصيت النماذج المكتوبة باللغات المحلية واستبعدت. وهذا يعني أن جزءًا مهمًا من السرديات المحلية في مرحلة الاستعمار وما بعده أُهملت بتقصد وانتقائية واضحة جدًا، وبقيت فقط السرديات المحلية المتمثلة لروح المركزية الغربية الأوروبية وهنا تكمن خطورة الاعتماد على مثل هذه النماذج. لقد شكّلت كتابات إدوارد سعيد عن الإستشراق والإمبريالية مرجعية نقدية مهمة جدًا في هذا الموضوع، ومع ذلك تخطى منظرو مصطلح «أدب العالم» إدوارد سعيد وتجاهلوه تمامًا. حاولت مجلة ألف من خلال عددها الخاص عن «أدب العالم، روى ومناظرات» أن تفكك مصطلح «أدب العالم»، وتجعله يركز على مختلف الحضارات العالمية لاستيعاب «آداب عالم أخرى وبلغاتها المحلية. ولذلك أتت محاور هذه المقاربات متعددة من الفن التشكيلي متضافرًا مع الأدب العالمي، ومن قراءة الأدب العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، ومن التناص والتحول في الذاكرة الجماعية في الرواية التاريخية الصينية والعربية، إلى بيان أن المركز يتهاوى من خلال دراسة تطور أثنولوجيات أدب العالم واستراتيجيات القراءة العالمية. أشار المنظر الفرنسي كريستيان غراتالوا إلى فكرة تعدد المركزيات الثقافية في العالم، وإلى الحاجة إلى إعادة كتابة تاريخ العالم من خلال تجاوز هيمنة المركزية الغربية الأوروبية عليه، وكان مثاله الأبرز رواية اكتشاف أمريكا، فإلى جانب الرواية الأوروبية الحاكمة عن أمريكو فسبوتشي وكريستوفر كولومبي ثمة مرويات أخرى معاصرة تزعم أسبقية الاكتشاف وهي روايات إفريقية وصينية وعربية. وفي النقد كذلك تجاوزنا منذ عقود طويلة هيمنة المركزية الغربية الأوروبية إلى عصور نقدية لا تلتزم بالمركز ويشارك في النظريات العالمية نقاد ينتمون إلى آسيا مثل إدوارد سعيد وجياتري سبيفاك وهومي بابا وآخرون. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :