لنواصل ما انقطع من حديثٍ حول طرق الاستفادة من أموال الزكاة في الواقع المعاصر، ومشروعيتها. نقول: ربما نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور النبهان – كما وجدنا بالأمس – وخاصة فيما يتعلق بموضوع إيجاد جسم مؤسسي حكومي كوزارة أو هيئة تقوم بجباية الزكاة ومن ثم توزيعها والتصرف فيها وألا يترك ذلك للإنسان، إذ إن ذلك يساعد كثيرًا في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي للزكاة. وما يؤيد كلامنا ما جاء به الدكتور عليّ أوزاك في بحثه «عرض الجهود والأفكار المعاصرة في المؤتمرات والمجامع والدراسات المتخصصة عن المفاهيم والتطبيقات الحديثة للزكاة» إذ يقول: «لا نعلم علمًا تامًا ماهية المؤسسات التي شكلت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم في جمع وتوزيع الزكاة، لأن الزكاة كمؤسسة رسمية تديرها الدولة، ظهرت في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان في بيت المال قسم أو دائرة للزكاة، ولكن الدول الإسلامية التي جاءت بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تهتم عبر التاريخ بديوان الزكاة اهتمامها بديوان المالية العامة للدولة»، ويواصل «وابتداء من عهد الخلفاء الراشدين غاب ديوان الزكاة وخاصة في عهد الخلافة الأموية والعباسية بين الدواوين المالية للدولة إذا استثنينا عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق وعهد الفاروق ثم عهد عمر بن عبدالعزيز، حيث تركت الزكاة عمومًا كفريضة تطوعية لعاتق المسلمين، وكان ذلك سببًا صريحًا لعدم تطوير وتكامل مؤسسة الزكاة بين المسلمين». ويؤكد هذا التوجه أي بوجوب وجود مؤسسة حكومية رسمية لجباية أموال الزكاة المستشار عثمان حسين عبدالله في كتابه «الزكاة الضمان الاجتماعي الإسلامي» إذ يقول: «ولقد صح عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن واليًا قال له: إنك تأتي قومًا أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب». يواصل الباحث ويقول «لاحظ أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل صدقة يؤديها أغنيائهم إلى فقرائهم، وإنما قال «تؤخذ» من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أدوا إليك – إلى الوالي عليهم – الزكاة فإياك وكرائم أموالهم، وإياك أن تظلمهم في الأخذ أو في العطاء، وإنما خذ من الأغنياء الزكاة بالحق والعدل، وادفعها إلى الفقراء بالحق والعدل، وهكذا يُستدل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ «إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، وذلك بنفسه أو بنائب عنه، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث نوابًا عنه، أو سعاة، ليجمعوا الزكاة ويزودهم بتعليماته، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يفعل ذلك، والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه سار على النهج ذاته، لم يفرق أي منهم بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة، ورأى كلاهما أن منع الزكاة نقض لعروة مهمة من عرى الدين، وخروج على أمر جماعة المؤمنين، ومخالفة خطيرة لأسس النظام العام الاقتصادي والاجتماعي في دولة الإسلام، واغتيال لحقوق الفقراء والعاجزين وغيرهم من المستحقين». ويواصل الباحث ويقول: «بل لقد وصل الجزاء على منع الزكاة إلى حد القتل والقتال، وإن أول حرب في التاريخ خاضتها دولة في سبيل مبادئ الضمان الاجتماعي هي حرب أبي بكر الصديق ضد مانعي الزكاة، وإذا كانت الطبقات الفقيرة قد ثارت في أوربا أو خاضت حربًا أهلية تحت تأثير الحاجة، وعملا على الانتصاف لنفسها، فإن الذين حاربوا في زمن الخليفة الأول أبي بكر دفاعًا عن حقوق الفقراء كان على رأسهم سراة الصحابة وأهل الحل والعقد والخليفة نفسه». إلى هذا المدى بلغ حرص الدولة الإسلامية على الزكاة التي كانت تعد ركيزة مهمة من ركائز الدين، شأنها شأن الزكاة وبقية الأركان الأساسية للإسلام، بل وإن الزكاة مرتبطة بصورة وثيقة بحقوق الناس فهي التي تحقق على المدى الطويل العدالة الاجتماعية والاقتصادية بين طبقات المجتمع المسلم، فقد ورد في كتب الأثر ما رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في كتاب الأموال. لكن الأثر في أموال بيت المال لا في أموال الزكاة فحسب، فروى أبو عبيد بإسناده عن سهيل بن أبي صالح، عن رجل من الأنصار، قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالحميد بن عبدالرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبدالحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن زوِّج كل شاب يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين. هكذا تتحقق العدالة الاجتماعية في عهد الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز عندما يتم تنفيذ فكرة الزكاة بصورتها كما شرعها الله سبحانه وتعالى. وهذا يدعونا أن نقتبس من كتاب «أحكام الزكاة» للكاتب عبدالله بن جار الله الجار الله هذا القول: «والزكاة بعد ذلك وسيلة من وسائل الضمان الاجتماعي الذي جاء به الإسلام فإن الإسلام يأبى أن يوجد في مجتمعه من لا يجد القوت الذي يكفيه، والثوب الذي يزينه ويستره ويواريه والمسكن الذي يؤويه فهذه ضروريات وحقوق يجب أن تتوافر لكل من يعيش في ظل الإسلام والمسلم مطالب بأن يحقق هذه الضرورات من جهده وكسبه فإن لم يستطع فالمجتمع المسلم يكفله ويضمنه ولا يدعه فريسة الجوع والمسكنة هكذا علَّم الإسلام المسلمين في أن يكونوا كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك بين أصابعه، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». رواهما البخاري ومسلم. والزكاة مورد أساسي لهذه الكفالة الاجتماعية المعيشية التي فرضها الإسلام للعاجزين والمحرومين». إن تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى في المجتمع لكفيل أن يحل جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة التي يعيشها إنسان اليوم، فقد أشارت العديد من الدراسات إلى علاقة الزكاة بإنهاء البطالة وعلاقة الزكاة بإنهاء الفقر، وبإنهاء العوز والحاجة، وتنفيذ فكرة التقارب الطبقي بين الفقراء والأغنياء، والتخلص من حب المال وعبوديته، والكثير من تلك التغييرات التي تحاول أن تنشدها النظريات الغربية المعاصرة، والتي نجد أن الإسلام طبقها منذ عدة قرون وخاصة في العصور الذهبية للدولة الإسلامية، نحتاج فقط أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وننهج فكره وعقيدته. zkhunji@hotmail.com
مشاركة :