ما زلت أبحث عنها، وأعدو وراءها من لحظة لأخرى ومن شهر لآخر ومن عام لعام، لعلني أمسك بها مع مقدم كل عام جديد، داعية المولى عز وجل، أن يريحني من العدو ويمكنني بعد طول عناء من الوصول إليها! لا تهزمني لحظة يأس، ولا يوقفني عن العدو خلفها قلب مثقل بالأحزان، ومثخن بالخذلان، أو هزائم تلو أخرى لم أكن سبباً في ظهورها بل كنتُ وغيري ضحية لها، ولم تفلح وطأتها في أن تباعد بيني وبين مواصلة البحث عنها. مازلت أجري سعياً للوصول إليها، وسأظل أفعل مدى العمر لأنها تستحق كل عناء. إنها أحلام عمرنا المؤجلة قسراً وعنوة، التي تأبى أن تهبط من عليائها، إلى واقعنا العربي الفسيح. يؤنسني في رحلة البحث عنها عاماً بعد آخر، أنني لستُ وحدي، بل أخوضُ غمارها مع غيري من العرب في كل مكان، أنتظر وقوفها على أقدام ثابتة بشغف ولهفة، مع كل شروق شمس مبلل بقطرات ندى، يصاحب بزوغ فجر يوم عربي جديد، أو ليست بلاد العرب أوطاني، من الشامِ لبغداد، ومن نجدٍ إلى يمن، إلى مصرَ فتطوانِ، كما يقول الشاعر؟ قبل نحو أكثر من أربعة عقود، قرأت بدهشة مقالاً لافتاً للنظر في دورية عربية للكاتب ونقيب الصحفيين الأسبق كامل زهيري، عن قصيدة «نزار قباني» الشهيرة (قارئة الفنجان) التي تغنى بها عبد الحليم حافظ، في واحد من أجمل ألحان الموسيقار محمد الموجي، وأبرعها في صياغة جمل موسيقية تطلق العنان للخيال وتطابق بين النغمة والكلمة، بعد تعديل بعض مفردات النص الأصلي للقصيدة بموافقة من الشاعر. سبب الدهشة أن المقال ذهب إلى تفسير للقصيدة لم يخطر على بال أحد. فالقصيدة لم تكن في رأيه تتحدث عن الحب بين الرجل والمرأة، بل هي مرثية للحرية البعيدة المنال التي ينشدها كل عربي ولا يحظى بها: قالت يا ولدي لا تحزن، فالحب عليك هو المكتوب، قد مات شهيداً، من مات على دين المحبوب، فنجانك دنيا مرعبة، وحياتك أسفار وحروب، لكن سماءك ممطرة، وطريقك مسدود..مسدود، فحبيبة قلبك يا ولدي، نائمة في قصر مرصود، والقصر كبير يا ولدي، وكلاب تحرسه وجنود، وأميرة قلبك نائمة، من يدخل حجرتها، من يطلب يدها، من يدنو من سور حديقتها مفقود مفقود. فهل أذعن المواطنون العرب لنصيحة الكاتب والشاعر والمطرب؟ وهل كفوا عن الاقتراب من الأسوار وحتى تحطيمها؟ أيام قليلة ويلملم هذا العام أوراقه ذاهباً إلى مجهول لا نعلمه، تاركاً خلفه بجانب غُصة في الحلق، ملفات أحلامنا المؤجلة منذ بدايات القرن الماضي حتى اليوم، لنحملها معنا على أكتافنا، ونحن نستقبل العام الجديد، كصخرة سيزيف في الأسطورة الإغريقية، الذي عاقبته (الآلهة) لخداعه لها، بأن يحمل على ظهره صخرة يصعد بها من أسفل الجبل، فما يكاد يصل إلى قمته حتى تتدحرج الصخرة لتهوي إلى أسفله، ويظل يعاود المحاولة بلا توقف ليبقى عقابه هو القيام بذلك العمل الذي لا جدوى منه، بلا نهاية. لكن أحلامنا المؤجلة ليست صخرة سيزيف، بل هي قمة الجبل التي لن نكف أبداً عن الحلم بالوصول إليها والتربع عليها لتلامس أناملنا القمر والنجوم وتناغش السحب، وترسو فيه أحلامنا على أرض تلك القمة الصلدة. وبرغم كل الخيبات التي لا تكف عن ملاحقتنا، فسوف نستقبل في أنحاء وطننا العربي الكبير، العام الجديد بالأحضان والبهجة، ونكسر (قلة) وراء العام المنصرم، كما كان يفعل كهنة الفراعنة، حين كانوا يصنعون تماثيل فخارية مكتوب عليها تعاويذ دينية، يأخذون في تكسيرها كرمز للخلاص ممن يكرهونهم. 2020عام جديد قادم إلينا بعد أيام، يملؤنا التفاؤل بأن ترفرف فيه على ربوع أوطاننا رايات العدل والحرية والاستقلال، وتعم فيه مشاريع تنموية تكفل الحماية الاجتماعية لكل المواطنين. عام جديد يختفي من مدن أوطاننا الجوعى والمشردون واللاجئون وغير المتعلمين والعاطلون عن العمل. عام تهدم فيه السجون لتعم المدارس والجامعات والمستشفيات وتنتشر الحدائق والمكتبات في كل المدن العربية. عام تعلو فيه المصالح المشتركة للدول العربية فوق المصالح القطرية الضيقة، وتمتلك الأمة مصيرها بيدها. عام تدرك فيه الدولة الوطنية العربية أن الاستقرار غير الجمود، وأن رضا الشعوب وقبولها بالسياسات التي تحكمها، هو الضامن الرئيسي لحماية استقرار الأوطان. وأن الأوطان تنمو وتزدهر بالقضاء علي الفساد المؤسسي والاستبداد السياسي سواء كان مدنياً أو دينياً، بما يحمي ثروات البلاد من التبديد، ويبني المجتمع الذي ينتمي فيه المواطنون وطن يعبر عن مصالحهم، ويحميهم من الجماعات المذهبية والطائفية المتطرفة. عام جديد نزهو فيه نحن العرب صناع الحضارة والكشوفات العلمية والطبية والجغرافية والمعمارية منذ فجر الضمير الإنساني، بدولة المواطنة العربية التي تساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات، وتجرم التمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو العرق أو الجنس أو اللون أو الاتجاه السياسي، وتشدد العقوبة على جرائم العنف ضد المرأة داخل الأسرة وخارجها بحجج واهية تزعم الدفاع عن الشرف. أليست كل تلك أحلام مشروعة تستحق كل عدو وكل مشقة وكل عناء؟ * رئيسة تحرير جريدة «الأهالي» المصريةطباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :