ما يجمع بين الفنانين المشاركين في المعرض الجماعي “من الطوفان إلى الطيران، أساطير وأغنيات وحكايات أخرى” المقام حاليا في صالة “نظرة أولى” بالعاصمة الفرنسية باريس، لا يرتبط بوضعهم القانوني أو الإداري كعادة المعارض المشابهة التي تهيمن فيها صفة “لاجئ” على الأفراد، إذ يسعى المعرض الذي يشارك فيه عشرون فنانا من الشرق الأوسط والمغرب العربي للجمع بين الفنانين وأعمالهم على أساس موضوعة مشتركة، ورؤية نقدية وجمالية عن مكانهم كفنانين في هذا العالم المحكوم بالمآسي والتطور التقني، ليتحوّل التعبير الجمالي إلى شكل نقدي يحاكم فيه الفنان نفسه كموضوعة سياسية وثقافية، مشيرا إلى الأسباب التي جعلت “ذاكرته” و”حكايته” تظهر بالشكل الذي هي عليه. التعبير الجمالي يتحوّل في المعرض الجماعي إلى شكل نقدي يحاكم فيه الفنان نفسه كموضوعة سياسية وثقافية وتقول إيلينا سوروكيان منظمة المعرض إن الهدف منه “خلق مساحة للتبادل والتضامن بين الفنانين الذين يجتمعون حول موضوعة الاستخدام الحالي للأساطير والحكايات التي تشكل المتخيّل الجمعي في مناطق مختلفة من العالم”. وتضيف “المقاربة الفنية المعاصرة للأساطير لا تتماشى مع مفهوم الأسطورة الشخصية للفنان التي ظهرت في السبعينات، وعوضا عن محاولة العمل على الفردانية أو جعل هذه المفاهيم معاصرة، يميل الفنانون نحو تطوير مقاربة تحليلية أساسها تغيّر الرؤى الغربية للعالم، عبر دراسة التطورات الطبية، والجانب الأسطوري والخطير لوسائل التواصل الاجتماعي اليوم”. روايات فنية المعرض الجماعي من تنظيم جمعية “الأبواب المفتوحة على الفن”، وهي جمعية تأسّست في باريس من قبل مجموعة من الفنانين والناشطين في المجال الفني السوري والفرنسي، في محاولة لتعريف السوق والمتلقي الفرنسي على الأعمال الفنية القادمة من سياقات مختلفة عن تلك التي اعتاداها سعيا منها لإدخال الفنانين الذين غادروا أوطانهم ضمن سوق الفن الفرنسي ومتلقيه بعيدا عن التنميط التقليدي المرتبط بتصنيفي “الغريب” و”المحلي”. وتقول دنيا الدهان، وهي واحدة من مؤسسي جمعية “الأبواب المفتوحة” حول سؤالنا عن طبيعة نشاط الفنان السوري في فرنسا، إن هناك العديد من العوامل التي ساهمت في أن يحافظ على مهنته، وهي على الأغلب عوامل ذاتية، منها أن الكثير من الفنانين السوريين اعتبروا أن استمرارهم بالفن هو وسيلة مقاومة، وبالتالي أصبح هناك عامل مرتبط بالمسؤولية. وتضيف “من فهمنا لتركيبة الفنان ندرك أنه لا يستطيع أن يستمر دون ممارسة الفن، فالأمر ليس خيارا بالنسبة له، وإنما واقع يتعايش معه، حتى ولو كان ذلك على حساب استقراره المالي. أما في ما يخصّ دور جمعيتنا والذي لا أستطيع أن أجزم به، أظن أن النشاطات التي تم تنظيمها منذ بداية عام 2018 قد شكلت دافعا للاستمرارية بهمّة أكبر، ابتداء من التضامن بين الفنانين أنفسهم والذي تجسّد من خلال لقائهم ودعمهم المتبادل أثناء النشاطات، كذلك التواصل والحوار مع الجمهور الفرنسي وعلى الأخص المختصّ بسوق الفن الفرنسي كان مهما لكلا الطرفين”. ويأتي المعرض كجزء من محاولات الجمعية لمخاطبة السوق الفرنسي بأكمله، وتقول الدهان إنهم يحاولون في بعض الأحيان التوجه لفئة محددة في ما يخصّ فنانا محدّدا أو عملا فنيا محدّدا. وتضيف “حاولنا بشكل عام في الفعاليات السابقة أن نقدّم الفنانين بوصفهم فنانين فقط، بمعزل عن أي صفات أخرى. نستبعد دائما مفردات نرى أنها تحجب إمكانية رؤية الفنان بشكل مجرد، ولكن في الوقت ذاته نحترم حكايتهم الشخصية التي هي جزء من نتاجهم الفني بشكل مباشر أو غير مباشر”. وسائط مختلفة تتنوع الأعمال في المعرض والوسائط التي يستخدمها الفنانون، إذ نشاهد فيديو للسورية الفلسطينية بيسان الشريف بعنوان “حكايات حب في بلدان حارة” وهو جزء من مشروع أكبر بعنوان “دخلت مرة في جنينة” لكل من الشريف وكريستيل خضور، ونسمع فيه حكاية عن المغنية أسمهان، وطائرين وقعا في الحب ثم افترقا، لتتلاشى صورة أسمهان أثناء سماعنا لقصتها التي تتداخل مع قصة كريستيل خضور، وعلاقتها مع المغنية و”الحب” بوصفه مساحة سرية نسعى دوما لاكتشافها. ونشاهد أيضا لوحة للفنانة الإيرانية حره ميرشيكاري، والتي يتلاشى فيها الجسد على حساب الكلمات أو العكس. تتكوّن الكلمات صعودا لتصبح جسدا، لا ندري إن كان معلقا أو متكئا، لتبدو اللوحة أشبه بكولاج من نوع ما، عنصر فيه فائق الواقعية، تحيط به كلمات وخطوط لنبقى كمتلقّين عالقين عند نقطة اللّا اكتمال، فأي من تلك العلامات أمامنا هي مفتاحنا نحو النهاية، أو لحظة الاكتمال، التي تختلف في عقل كل متلقّ بحسب اختياره لترتيب العناصر التي يراها في اللوحة؟ ويلفت الانتباه في المعرض عمل للفنانة إيلا ديل بوركا، ويتألف من آلة كتابة معلقة بالورق الذي كتبت عليه قصائد، مجرد شكل العمل يطرح لدى المتلقي تساؤلات عن الشكل، فما هو طول القصيدة اللازم كي يتحمّل الورق وزن الآلة الكاتبة، خصوصا أن لا مجال للخطأ أو تغيير الورق، فهل تكتب مباشرة أم “تطبع” الفنانة كل كلمة على حدة، ما يحيلنا إلى مفهوم النهاية، فمتى قرّرت بوركا أن تنهي الطباعة لتضمن أن طول الورق أصبح مناسبا وهل هذه النهاية مدروسة أم مرتجلة قطعت النصّ من منتصفه، وهل سيتمزّق الورق إن استمرت بالكتابة؟ نشاهد أعمالا للمغربية حنان الفارسي بعنوان “حريق في مرسيليا” نتلمس فيها التناقض بين مفهوم الحريق وبين الألوان المستخدمة لتبدو اللوحة كأنها غارقة، أو ناجية من الحريق وسالت ألوانها بفعل الماء، وكأننا أمام وثيقة عن حدث ماض بقي أثره، لتترك مساحة في المخيلة لمحاولة إعادة بناء الصورة “الأصل”. هذا ونظمت جمعية “الأبواب المفتوحة على الفن“ على مدار السنوات السابقة عددا من المعارض المشتركة والجلسات الحوارية، التي عرّفت فيها الجمهور لا فقط على أعمال الفنانين، بل أيضا مساحات عملهم، وأسلوب إنتاجهم والصعوبات التي يواجهونها.
مشاركة :