كثيراً ما توظف قضية تعليم البنات لدينا كنموذج تاريخي على أن القرار السياسي أكثر تقدمية ووعياً بمتطلبات المرحلة واشتراطات العصر من القرار الشعبي. وهذا التصور وإن كان يمتلك بعض الصحة، إلا أنه من ناحية أخرى قد يغفل المعطيات التاريخية التي أسهمت في بلورة قرار تعليم البنات. فقرار تعليم البنات كان إرهاصاً وومضات تتبدى من خلالهما طموحات النخب المتعلمة والطليعية آنذاك. كما أنه أيضاً كان استجابة لإيقاع نهضوي متصاعد يحيط بالمملكة في عمقها العربي من ناحية، ومن ناحية أخرى يتعلق باشتراطات التأسيس وطموحات الدولة المدنية الحديثة التي تسعى إلى أن تكونها. فعلى المستوى الإقليمي كانت دعوات تعليم البنات قد جاوزت النصف قرن ف(رفاعة الطهطاوي) في مصر ألف كتاباً في تعليم البنات اسمه (المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين) عام 1872، وفي عام 1873 التحق بتعليم البنات في مصر 200 فتاة. وفي مطالع القرن الماضي انطلق الشعراء العرب يدعمون هذه المسيرة فقال من كانوا يسمونه بأمير الشعراء أحمد شوقي / 1924 العلم كان شريعة لنسائه المتفقهات رضن التجارة والسياسة والشؤون الأخريات ونظم شاعر النيل حافظ إبراهيم أبياته الشهيرة التي أشبعناها ترديدا ولوكا على ألسنتنا دون أن نتملى بقبس الضوء بين أبياتها عندما قال: من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق فرياح التغيير حينما تهب على المنطقة من الصعب القيام بعملية فرز وحجب لبعض الأمور وإبقاء الأخرى وفق مزاجية انتقائية، وكل المحاولات في هذا الاتجاه قد تبدو عبثية. فعملية التأسيس كانت تتطلب مجهودات كبرى وتضحيات لأنها تمثل قطيعة معرفية مع أنظمة قديمة استنفدت أدواتها ولم تعد تلائم العصر، وتتطلب أيضا تجاوز العلاقات القبلية التي تقوم على التوازنات داخل المشيخة العشائرية إلى شكل الدولة المدنية الحديثة بجميع مؤسساتها وتراتبية علاقة السلطة داخلها. وقد اختارت الدولة منذ مطالع التأسيس أن يكون خيارها مستقبليا، وخاضت في سبيل هذا مواجهة حادة مع قوى الجهل والتطرف في الداخل عندما تم رفض المنتج الحضاري بشكله المادي من راديو وتلفاز، إلى شكله المعنوي من تنظيم إداري وتعليم وابتعاث. الإرادة السياسية حينما تختار المستقبل فإنها حتما تنحاز للنخب المثقفة وطبقة الانتلجنسيا، فاستشراف المستقبل مع أصحاب الرؤى المنفتحة على العالم من حولها، الرؤى الفعالة المنتجة حتما يحدث فرقاً وقفزة حضارية، فهي طبقة تؤمن بديناميكية الزمن وتحولاته ضد التحجر والجمود. وكما قلت فإن رياح التغيير أو تحديدا اشتراطاته من الصعب أن نخضعها لعملية فرز واستثناء وحجب، ولاسيما في ما يتعلق بالمرأة وحضورها بالمشهد التنموي، فهناك مقعد على الدوام معد لها لتشغله، وأدوار ومهام تنتظرها.. فإنها (في الشرق علة ذلك الإخفاق). ولئن كانت هناك بعض الكبوات التاريخية في المسيرة .. وإن كانت في بعض المراحل قوى الظلام والجهل تستطيع أن تطوق المنجز الحضاري وتكسب بعض المواقع والجولات .. ولكن دائما القوانين التاريخية تخبرنا أن الانتصار يكون للمستقبل .. وأولئك الذين اختاروه..
مشاركة :