ربما انتهى الاستشراق الكلاسيكي بموت برنارد لويس، غير أن السجال حول المجال برمته وتنوعه لم ينته. الاستشراق بكل أثره، وما حمله من معانٍ ومناهج ومفاهيم لايزال موضع اهتمام المؤلفين، فالمجال أعم من تسميته، إذ تظل الدراسات بين الأمم والثقافات أساسية، ولا يشترط معها وجود خطط هيمنة، أو إرادات توسع، كما في المفهوم الأكثر حدة للاستشراق والذي طرحه الراحل إدوارد سعيد، في كتابه: «الاستشراق» 1978 الذي لايزال موضع نقاشٍ وسجالٍ وبخاصة في منهجه، ونتائجه الحاسمة، ومعه كتابه المتمم: «الثقافة والإمبريالية» 1993. من هنا وجد وائل حلاق الأستاذ في جامعة كولومبيا الفرصة مواتية ليطرح عام 2018 كتابه المهم: «قصور الاستشراق - منهج في نقد العلم الحداثي» وضمنه ملاحظات محورية وجوهرية حول كتاب سعيد. والكتاب موزع على خمسة فصول: (وضع الاستشراق في مكانه، المعرفة والقوة والسيادة الكولونيالية، المؤلف الهدام، السيادة المعرفية والإبادة البنيوية، إعادة صوغ الاستشراق وإعادة صوغ الفرد). ومضمون الكتاب يتكشف إذا قرأنا العنوان الشارح: «منهج في نقد العلم الحداثي». يبدأ حلاق بتقرير غموض مصطلح الاستشراق، ومشكلة التمييز بين الاستشراق المتحيز والآخر الموضوعي، غير أنه يتفهم هذا من الناحية الإمبريقية العملية، تهادى سعيد بين «المبالغة»: «التي تجد جذورها في أفكار ميشيل فوكو النافي للفاعلية الفردية في تكوين خطابات القوة» وبين مشكلة «التعميم الجارف»، وينتقد منذ بداية الكتاب تبني سعيد لنظرية الحتمية عند فوكو، الخاصة بالتشكلات الخطابية، والتي لا تأخذ بعين الاعتبار الفردانية التأليفية والإسهام الفرداني كما يعبر حلاق، رغم إثبات سعيد لاختلافه مع فوكو حول «البصمة المحددة» التي أخذ بها سعيد، وذلك مفصل في مقدمة كتاب حلاق (ص 38). ومن ملاحظات حلاق على سعيد استغراقه بالنقد السياسي، فـ«البدء بالسياسة والانتهاء بها كحقل تقليدي... يؤدي إلى إغفال المقدمات التي يمكن نقد مفهوم السياسي نفسه بموجبها»، ثم يسبب لذلك الاستغراق: «بأن سعيد ظل يحرث حقولاً سياسية تقليدية إن لم تكن بدائية وذلك لأن سرديته النقدية افترضت وجود الفرد السياسي نفسه أي الفرد الحداثي وأبقت عليه باعتباره القالب الصلد لتلك الأنماط ومحلها». النقاط الثماني التي بدأ بها نقده بعد حتمية فوكو والفردانية التأليفية اختصارها بالآتي: «إنكار سعيد لفضل أنور عبد الملك وعبد اللطيف طيباوي، وقوع الكتاب في فخ وجود جواهر للأشياء (essentializing)، إضافة إلى الإجمال والتعميم، وافتقاد الكتاب للمنهج التاريخي بسبب تخصص سعيد الأدبي، واعتماد الكتاب على أدوات نظرية متشعبة ناتجة عن افتراضات معرفية متناقضة. وتجاهل الكتاب لمستشرقين ألمان، واتجاهاتٍ نسوية، ولبعض الشرقيين أنفسهم، وعدم تفسير الكتاب لأنماط الاستشراق. وإضمار الكتاب لتحيزات آيديولوجية معادية للصهيونية واليهودية». في الفصل الأول يعترض على مقولة سعيد: «كل أوروبي كان في كل ما قاله عن الشرق عنصرياً وإمبريالياً ومتمركزاً بالكامل حول إثنيته الخاصة». يحاجج حلاق بأن: «هذا الحكم جارف وشامل، إذ لا يميز بين كل من تحدث عن الشرق، بدءاً من إيسخيلوس ووصولاً لبرنارد لويس... وإذا أخذنا في الاعتبار نظرية التشكلات الخطابية المحددة تاريخياً وثقافياً عند فوكو، والتي لا يذهب بها أبعد من القرن السابع عشر، واعتراف سعيد بتأثره بفوكو فإن سياحة سعيد في اليونان القديمة وفيينا في بدايات القرن الرابع عشر تثير الشك في مدى فهمه لمقصد فوكو بالتشكل الخطابي» (ص 67). وحول منهج سعيد وفوكو يمكن مطالعة (ص83) وكذلك الفصل الثالث. في الفصل الثاني ينتقد مقولة سعيد: «الاستشراق نمط تفكير، يقوم على التمايز بين الشرق والغرب»، بل إن: «الاستشراق كان أدائياً ولم يكن تصويرياً، فقد كان موضوعه باعتباره بنية مؤسسية وفكرية هو الشرق نفسه، فضلاً عن محاولة إعادة إنتاجه مادياً ونفسياً ومعرفياً، وهو بذلك يرتبط بالقوة بصورة لا يمكن اليوم الشك فيها». في الفصل الثالث يناقش «المؤلف الهدام» وهو: «المرادف للزخم الخطابي الكامن، أو الجنيني، في أفضل الأحوال، الذي لا يرتقي أبدا إلى مستوى التشكل المناهض للمنظومة المعرفية المهيمنة»، من هنا يعتبر حلاق: «أنه من الصعب الاستنتاج بأن سعيداً قد فهم تماماً المضامين الكاملة لنظرية المؤلف عند فوكو، كما يبدو، وأن سعيداً ينسب لفوكو انغلاقاً نظرياً، لا يصح اتهامه به». ويذهب وائل حلاق أبعد من ذلك حين يضع ملاحظة حاسمة: «لم يستطع سعيد - وهو أحد رجالات التنوير الأقوياء - أن يرى أين تكمن مشكلة الاستشراق، فقد كانت نظرته للمعرفة محدودة بصورة ليست مستغربة» (ص 272). في الفصل الرابع، «الإبادة البنيوية»، يلاحظ حلاق أن: «الكولونيالية، بنوعيها الاستيطاني وغير الاستيطاني، إبادية بطبيعتها، وبكل ما تحمله كلمة الإبادة من مضامين تتطلب منا توسيع معنى الإبادة لتتجاوز الأشكال المادية التقليدية. وإذا قبلنا هذا الطرح يلزمنا أن نستنتج أن الأكاديمية الخاصة بالنطاق المركزي، وليس الاستشراق فقط، تنزع بطبيعتها إلى وضع الأسس الخطابية والمادية للإبادة الكولونيالية، يعني هذا أنه لا توجد علاقة منطقية ووجودية لازمة بين الأكاديمية الخاصة بالنطاق المركزي والكولونيالية من جهة، وبين الكولونيالية والإبادة من جهة أخرى». وفي آخر الفصل يضع نقطة على طرح سعيد؛ إذ إن نقده لسياسات الإبادة يشبه نقده للاستشراق، مختلط بالأسطورة، ومحاط بحالٍ من النكران العميق. في الفصل الخامس يقدم خططاً للعبور نحو صوغ سردياتٍ أخرى، تشمل البيئة، والفظائع الكولونيالية، والعنف، ومصادر الماء، كل ذلك يجعل أسس الفكر الأخلاقي هنا مشتملاً على أشكال المعرفة الحديثة. تميز كتاب وائل حلاق بالصرامة المنهجية، وبالغنى العلمي والفلسفي، وكشف عن ثغرات منهجية كارثية وأبرزها علاقة سعيد بأدوات ميشيل فوكو، فهي ملاحظة منهجية رئيسية في الكتاب. لقد ضُخم كتاب إدوار سعيد «الاستشراق» لدى جموعٍ من العرب، وأحبطهم ذلك عن نقده، وما كان السبب معرفياً وإنما لمنطلقات آيديولوجية بحتة، غير أن نقد البروفسور وائل حلاق وضع الكتاب الرئيسي له تحت المساءلة المنهجية، فكان ثمرتها هذا الكتاب النقدي المفيد. *نقلاً عن "الشرق الأوسط"
مشاركة :