بعد أن أنهت مصر معركتها العسكرية مع إسرائيل فى أكتوبر 73، وكانت نتيجتها حاسمة لصالح الجيش المصرى الباسل، الذى لقَّن إسرائيل دراسًا تاريخيًا لا ينسى؛اتجهت الدولة المصرية بقوة نحو تحقيق التنمية، وأصبحت مواجهة الفقر قضيتها الأساسية. متبعة فى ذلك كافة السبل التى تجعلها تحصد سريعًا عوائد النصر، وتعوض سنوات عِجاف قضتها فى كفاحها المستميت نحو التخلص من العدوان الغاشم. وأملًا فى أن يشعر المواطن بعائد النصر فى تحسين أحوال معيشته. وفى حين سلكت الدولة المصرية سياسات الإنفتاح الاقتصادي وفتحت أبواب الهجرة للخارج على مصرعيها، حدًا للبطالة وجلبًا للعملة الصعبة الشحيحة .. لم يفهم الشعب لغة الانفتاح .. وكان الحوار بينه وبين الحكومة أشبه بـ"حوار الطرشان" وعبر الشعب بحسمٍ عن رأيه فىسياسات الانفتاح، من خلال "انتفاضة شعبية" حادة، أطلقت عليها الصحف المصرية آنذاك "انتفاضة الغلابة" بينما أسمتها الحكومة بـ" ثورة الحرامية " ..! ومن بداية الثمانينيات وحتى يناير 2011 تبنت الدولة جملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحد من الفقر، أبرزها برنامج الاصلاح الاقتصادى الهيكلي الذى استهدف تحقيق التنمية الشاملة مع مراعاة البعد الاجتماعى للتنمية .. لكن بشهادات دولية وبشواهد واقعية لم تحقق تلك السياسات أهدافها.. وظل معدل الفقر يعاود تصاعده .. ولولا سقوط الـ 50 مليار دولار من ديون مصر الخارجية إبان حرب الخليج لتعرض الاقتصاد المصرى لأزمة تاريخية لم تشهدها مصر من قبل ..! وبرغم كافة الجهود التى بذلت للحد من الفقر، وبرغم تنوعها؛ تبقى سياسات 30 يونيو هى الأكثر صلابة فى مواجهة الفقر. فبالرغم من تعدد الأزمات التى تعرضت لها البلاد، وتنوعها من أزمات أمنية واجتماعية واقتصادية، وجوائح صحية وبيئية. وسواء على المستوى المحلى أو الإقليمي أو الدولى،والزيادة السكانية المضطردة؛إلا أن مصر قد استطاعت أن تحافظ على معدل نمو الفقر ثابتًا، لا يتجاوز 1.4% على مدار أربع سنوات متتالية، من 2015 وحتى 2019.مع استهداف خفض معدل الفقر فى مصر ليصل إلى 2.5% بحلول 2030م..! لقد وضعت جائحة كورونا أشكال الحماية الاجتماعية التقليدية محل اختبار. واليوم تقف السياسات الاجتماعية أمام مفترق طرق، بعد أن فشلت برامج المساعدات التقليدية في حماية الفئات الأكثر هشاشة والأكثر فقرًا من المخاطر الاقتصادية. الأمر الذى دفع كبرى المؤسسات الاقتصادية والتنموية فى العالم إلى الحديث عن "الدخل الأساسي الشامل " الذى يستهدف توفير دخل ثابت لجميع المواطنين بلا استثناء؛ لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وذلك بهدف تقليل معدل اللامساواة بين الناس،مع اعطاء أولوية فى الحماية للفئات الأكثر تعرضًا للمخاطر،مثل العمالة غير الرسمية وكبار السن والمتعطلين عن العمل. ونظام الدخل الأساسي الشامل " UBI" هو عبارة عن مبلغ ثابت تقدمه الدولة لجميع مواطنيها، دون استثناء، و بصرف النظر عن الدخل أو المركز الوظيفي. ووفق هذا السياق فثمة مقترحات عدة للتطبيق .. ففي حين يرى البعض قيام الدولة بصرف هذه المبالع بشكل اسبوعي أو شهري.فإن هناك من يرى منح المواطن المبلغ كاملًا بمجرد أن يبلغ ِسنُهُ الـ 18 عاما. ويختلف المبلغ من بلد لآخر إلا أن الثابت أن المبلغ يكون بقدر متوسطالاحتياجات الأساسية للفرد في بلد معين. ويسمى هذا النظام بعدة أسماء منها الدخل الأساسي غير المشروط ، و دخل المواطن ونظام التأمين الأساسي. وبرغم أن هذا النظام قد يبدو اشتراكيًا نوعًا ما، إلا أنه من الغريب أن يكون أكثر داعميه من الطبقة الرأسمالية ..! وفي حين يرى البعض ضرورة تطبيق النظام لإعادة توزيع الثروة، وإعادة التوازن المفقود، و أنه يُعد أرضية جيدة لتحقيق الأمن الإقتصادي، الذي يمنح الناس فرصة لمواصلة التعليم و التدريب و التخطيط للمستقبل.فإن هناك من يرى أن دفع المال للناس دون عمل يدفعهم إلى عدم العمل ..! وفى فيما يتعلق بالوضع المصرى فقد قام صندوق النقد الدولي بعمل حسبة لتطبيق الدخل الأساسي الشامل في مصر طرح فيها ثلاثة سيناريوهات للحد من الفقر .. كان الدخل الأساسي الثابت أو الشامل هو بيت القصيد فيها . وبالرغم من أن المبلغ المالى المقرر للدخل الأساسي المقترح أو المحسوب فى السيناريوهات الثلاثة ضعيف . وأن تكلفة منحه للمواطنين ليست كبيرة ؛ إلا أنه يساهم بقوة فى خفض معدلات الفقر بشكل ملحوظ،. علمًا بأن تطبيق "الدخل الأساسي الشامل"ليس بديلا لبرامج الحماية الاجتماعية الأخرى بل ربما مكملًا لها. ففى السيناريو الأول تقوم الدولة بمنح المواطنين جميعًا مبلغًا ماليًا مقطوعًا قدره 725 جنيه سنويًا .. ولا تتجاوز تكلفة هذا السيناريو 3.5% من اجمالي الناتج المحلي. ورغم ضآلة المبلغ إلا أنه يساهم فى خفض نسبة الفقر بمعدل 4.1%، كما أنه يساهم فى الحد من اللامساواة بنسبة 6 نقاط على معدل جيني. أما السيناريو الثاني فيقوم على توجيه نفس المبلغ إلى فئات الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم سن الـ 17 سنة .. وعادة ما يساهم هذا الخيار فى خفض نسبة الفقر بمعدل 5.6%، ولا تتجاوز تكلفته 1.3 % من اجمالى الناتج المحلي . وفى السيناريو الثالث يوجه الدعم أو الدخل الأساسي للأطفال وكبار السن الذين هم فوق الـ 65 سنة. وتبلغ تكلفة هذا السيناريو 1.5% من الناتج المحلى. ويساهم هذا الخيار فى خفض معدل الفقر بنسبة 6.1 %. ويمكن تطبيق " الدخل الأساسي الشامل" بالتدريج ما بين الفئات السكانية المختلفة، وكذلك بين المناطق الجغرافية المتباينة. ولعل هذه السيناريوهات جميعًا تدفعنا إلى التفكير خارج الصندوق وإعادة النظر فى البرامج التقليدية للحماية الاجتماعية التى تعتمد على الدعم النقدى المشروط أو غير المشروط.. والتأكيد على أن هذه البرامج لا تحد من الفقر، بل يقتصر دورها على الحفاظ على بقاء الفقراء على قيد الحياة .. وأن الاستمرار فى تقديم الدعم النقدى لفترة تتجاوز الثلاث سنوات هو مؤشر سلبى، يؤكد على قصور برامج الحماية الاجتماعية فى تخليص الفقراء من الفقر .. وأن المواجهة الحقيقية للفقر تكمن فى تكريس ثقافة العمل والإنتاج وتوفير كافة السبل التى تدفع إليه .. من خلال استبدال برامج الدعم النقدى ببرامج لتوفير وسائل وأدوات الإنتاج للفقراء.
مشاركة :