د. عبد الله الغذامي يكتب: الفلسفة والمؤسسة

  • 3/20/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في مطالع زمن الفلسفة ظهرت ثلاث شخصيات كبرى رسمت مسارات الفلسفة العالمية، هم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومع أن التلمذة جمعتهم وتلقى التالي منهم علمه من سالفه في علاقة وثيقة، ولكن الاختلاف بينهم عميق جداً في النظريات وفي أخلاقيات المعرفة، وأشير هنا لأخلاقيات المعرفة، وهي أشد تأثيراً على مجريات الفكر، لأنها تكشف طرق توظيف المعرفة، فسقراط كان متمرداً على المؤسسة وناقداً شرساً لها، وخطبته في الدفاع عن نفسه أثناء محاكمته تكشف خطابه التمردي بدءاً من مواجهته للنخبة المعرفية العليا في أثينا، وهي فئة الحكماء الذين وصفهم في خطبته بأنهم بعيدون عن الحكمة ودفع بالقول «كلما رأيت حكيماً حاولت أن أثبت له أنه ليس بحكيم»، وكانت منهجيته في المواجهة تعتمد سلاح السؤال، والسؤال هو أخطر الجيوش المعنوية، حسب بيت الثعالبي: ولو أني جعلت أمير جيشٍ لما حاربت إلا بالسؤال وهذا بيت ربما يلخص سيرة سقراط كلها، ويفسر سبب غضب المؤسسة عليه وانتقامهم من فتنته الكبرى، فتنة الأسئلة، فقد كان يعتمد إطلاق وابل من الأسئلة حول أي مقولة تظهر أمامه، وعبر السؤال يقوم بتقويض المقولة التي لا تصمد أمام تحديات السؤال، وهو لا يفعل ذلك تعالياً ولا تزكية للنفس، فقد قال في الخِطبَة نفسها: إن الحكمة الحقيقية لله وحده، أي أنه هو نفسه ليس حكيماً، ومن أنصف من نفسه، فقد أنصف غيره، فهو يمارس العدالة الأخلاقية في إثبات رخاوة الفكر أمام التحدي والمواجهة، مما يقوض عماد البنية الاجتماعية والذهنية لمجتمع أثينا. وفي المقابل سنرى أفلاطون في نقيض أستاذه في موقفه مع المؤسسة، فقد تماهى معها وبنى جمهوريته بنية طبقية تميز بين السادة والعبيد، أي أنها تنفي أربعة أخماس مدينة أثينا من القيمة العقلية والإدارية، حيث يمثل السادة مئة ألف شخص مقابل أربعمئة ألف شخص من العبيد، كما يقف الذكور في علية الهرم، وتظل المرأة رجلاً ناقصاً في جمهورية أفلاطون، ولن تكتمل إلا إذا فعلت فعل الرجال في الحرب وفي فن المصارعة، وأولها أن تذهب مع الجيوش للحرب كذهاب كلاب الصيد مع الصيادين، حسب تعبيره وتمثيله لصفة تفحيل المرأة وشروط ترقيتها من الأنوثة للفحولة. ثم يأتي أرسطو ليكون بين النموذجين، حيث لم يتمرد ولم يتماه مع المؤسسة، وإنما بقي مخلصاً للمعرفة دون شطط في أي من الاتجاهين، وحين طلبت المؤسسة معونته بادر إلى ذلك، فكان أستاذاً للإسكندر المقدوني الذي أصبح عظيماً فيما بعد، وقد تتلمذ على يدي أرسطو وتعلم الحكمة منه، ولم ينس الإسكندر الحق العلمي لأستاذه، بل بادر وأرسل لأرسطو عينات من النباتات العجيبة التي صادفها في غزواته حول المعمورة في ذاك الزمن، وقد أرسلها لغرض علمي لتطوير أبحاث أستاذه وإثراء نهمه للمعرفة، وهذه علاقة سوية مع المؤسسة، وإن تكدرت تلك العلاقة بعد وفاة الإسكندر المقدوني واضطر أرسطو للهرب خوفاً من تكرار مصير سقراط، وبرر هروبه بقوله: لن أسمح لهم بارتكاب جرم آخر ضد الفلسفة وكفاهم قتلهم لسقراط، وظل في منفاه الاختياري حتى مات. هذه نماذج ظلت تتكرر وتعيد نفسها في تاريخ الفلسفة حتى اليوم، فهايدجر تماهى مع المؤسسة ولبس البدلة النازية، وهو يلقي محاضراته في الجامعة ليعزز المفاهيم النازية بعلامات حسية، كما في مقولات فلسفية، وفي مقابل ذلك سنرى جاك ديريدا الذي سعى لتقويض سلطة الفلسفة نفسها بوصفها مؤسسة عليا فكرياً، لكنها مصابة بالتمركز المنطقي الذي يلزم كشفه لتعرية الخطاب وتفكيكه، وواجه سطوة المؤسسة ضده وملاحقتهم له لدرجة أن جامعة ييل في أميركا التي احتضنته بداية انتكست عليه وتمت تصفية كل أثر لديريدا وتلاميذه، أو أي أثر لنظريته في تلك الجامعة، لدرجة تخيير طلاب الدكتوراه بتغيير أطروحاتهم المتصلة بديريدا أو الانتقال لجامعات أخرى، ولذا لجأ ديريدا ومشايعوه لجامعة كاليفورنيا/‏‏ آرفاين التي استضافت فكره وبقي له بسببها مكان في أميركا. ويتوسط بين النموذجين برتراند راسل الذي يعيد صيغة أرسطو في الحياد الموضوعي الذي يقدم حقوق المفاهيم المعرفية وينزلها للواقع، وكان نقده لمفهوم الحرية السالبة مثالاً كاشفاً لهذه المنهجية العميقة، حيث كشف أن علة الاستعمار الأوروبي المخالف للمنطق أنه مصاب بعقدة القوة مصحوبة بمنحة الحرية، وإذا تضافرت القوة مع الحرية فاضت عن الحاجة البشرية، فأخذت القوة في البحث عن متنفس لها مدعومةً بحريتها غير المسؤولة، ولذا فاضت أوروبا على العالم وغزته بقوتها وبإذن ذاتي من حريتها غير المقيدة، وهنا ينقد مؤسسة الاستعمار التي تعيد صيغة أفلاطون عن طبقية السادة والعبيد، فأوروبا سادة والعالم المغزو عبيد، وهذا معنى أفلاطوني، وهو ما ينقده راسل، أما كشف تحويل الحرية إلى حرية سالبة، فهو ملمح سقراطي، حيث يثبت للحكيم أنه ليس بحكيم. وتظل الفلسفة في هذا كله أداة قابلة للتطويع البشري والتوظيف للنقد أو لتبرير مفاهيم السلطة والمؤسسة. والنماذج الثلاثة هي سيرة متصلة لأحوال الفكر البشري أو الحكمة البشرية كما يصفها سقراط التي تنتابها اللا حكمة حين امتحان الأسئلة.

مشاركة :