د. عبدالله الغذامي يكتب: الشعر والفلسفة

  • 6/12/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

هل كان ريتشارد رورتي مجرد يائس قانط من قدرة الفلسفة على إصلاح العالم... حين قال إن الشعر، وليس الفلسفة، هو الذي يمكنه إنقاذ البشرية من توحشها؟ هل بلغت صدمته من التوحش البشري الذي كشفت عنه سيرة الإنسان الحديث، وجعلت التوحش العصري يفوق كل توحشات البشر التاريخية، ومن مات في القرن العشرين بقرارات نتجت عن فلسفات ونظريات سياسية وعن حالات وعي تام وتخطيط متطور تفوق كل ما كان يحدث في أزمنة مضت؟ ولا شك في أن هذا التوحش البشري المعاصر قد أوجع قلب رورتي وجعله يقول إن الشعر هو الخطاب الذي يمكنه تحرير الروح البشرية من توحشها. وسنجد الجواب على هذا التساؤل عند باشلار حيث يقول: «إن الفيلسوف الذي تطور تفكيره بكامله من خلال الموضوعات الأساسية لفلسفة العلم، والذي تابع الخط الرئيس لعقلانية العلم المعاصر النشطة النامية.. عليه أن ينسى ما تعلمه ويتخلى عن عاداته في البحث الفلسفي إذا كان يرغب في دراسة المسائل التي يطرحها الخيال الشعري، ففي هذا المجال لا أهمية للماضي الثقافي. إن الجهد الطويل في تجميع وبناء أفكاره عديم الفائدة هنا.عليه أن يجيد التلقي - تلقي الصورة بمجرد أن تظهر.. إذا كان لابد من وجود فلسفة للشعر، فعليها أن تظهر وتعاود الظهور خلال شعرٍ ذي دلالة، عبر التزام كلي بالصورة المنعزلة، وحتى نكون أكثر دقة، فإن ذلك يجب أن يتم في لحظة الانتشاء بطزاجة الصورة - جماليات المكان / 18». هنا يتخلى باشلار مؤقتاً عن فلسفة العلوم والإبستيمولوجيا وهو أحد مؤسسيها الكبار، لكي يخلص رأسه من كل انحيازاته وانتماءاته المعرفية ويترك روحه، لا عقله، تستقبل الصور الشعرية ويحول استقباله الحر الفطري ليقرأ شاعرية المكان، والمكان عنده هو الرحم التي تحتضنه وتظل تمده بالحاجات الروحانية التي تتطلبها نفسه النافرة من توحش البشرية ضد المكان، أي ضد نفسها، بما أن المكان هو حضنها ومعناها الجذري، فالسجل الشعري مماثل للروح، ولذا يجب أن يظل منفتحاً لفحوصنا وتقصياتتا الظاهراتية (23)، بما أن الروح تمتلك ضوءاً داخلياً تعرفه البصيرة الداخلية وتعبر عنه بعالم من الألوان الرائعة في حال الرسم مثلاً، وهو عالم ضوء النهار محرراً عتمة الأشياء. هذه الإقباسات من كتاب باشلار «جماليات المكان» ومثلها كتابه (شاعرية أحلام اليقظة) لا تشرح حال باشلار فحسب، بل أيضاً تشرح حال ريتشارد رورتي الذي مر بشعور مماثل لشعور باشلار في الحس بالحاجة للروح، وكلاهما شهد الانكسار الإنساني في عبثية الإنسان بالمكان وفقدانه هذا الخط الرفيع الواصل بين الروح والمكان الذي تمازجت الروح معه، وحين انتهك الإنسان روح المكان بتلويثه وتدميره بالحروب وانتهك حرمته بأن استعمر الأمكنة وفصلها عن أرواحها؛ إذ جردها من أهلها، وتمخض ذلك عن عنف متوحش يصنع السلاح، لا ليدافع عن نفسه، بل ليتاجر بالسلاح ويجعله دخلاً اقتصادياً يتنافس في صناعته ويزيد من إتقان الصناعة ليجعلها أشد فتكاً، وكلما زاد فتك الآلة، زادت قيمتها وزادت فرص تسويقها وإرعاب الأرض والبشر وتشريد الأرواح بها. تلك الخيبة هي التي جعلت باشلار ورورتي معاً يلجآن للشعر ليس لذات الشعر، وإنما للبحث عن المكان وإعادة معنى المكان عبر لغة هي الأقرب للأمكنة ومن ثم اكتشاف الروح الساكنة في المكان، وهنا تأتي فلسفة الشعر لتجعل فلسفة العلوم إنسانية وتعيد التوازن بين الروح والعقل، وهذا هو مشروع هيجل أصلاً، وإن أصر باشلار على رفض فكرة الترادف بين الروح والعقل، ولكن إصراره هذا لن يخدم فكرته عن فلسفة الشعر، على أن قراءاته لشاعرية الأشياء تكشف بوضوح أن الوعي والروح معاً هما مقومات المكان في حال تأنسنه وتفاعله مع الروح القارئة والمؤولة للنصوص، وهذا ما تشهد عليه كتاباته. والجامع هنا بين هيجل وباشلار سيتجلى عبر تمازج الوعي والروح وتداخل المنطق والميتافيزيقا، وهي الأشياء التي نقدها برتراند راسل وعابها على هيجل، ولكن باشلار يؤسس عبرها نظريته عن فلسفة الشعر في ترافق الوعي والحلم «شاعرية أحلام اليقظة» متكاملاً مع «شاعرية المكان» والجامع هنا هي الروح، روح المكان وروح المعاني، حيث تصبح فلسفة الشعر خطاباً إنسانوياً يروض غلواء العقل، بينما الوعي يكبح جموح العاطفة، حسب معادلة روسو بين فضاء العقل وفضاء العاطفة. ومن المهم هنا التمييز بين الشعر والشاعرية، فالشعر بوصفه جنساً أدبياً قد يوقعنا بالشعرنة وهي الجانب النسقي للشعر، وقد وقفت على ذلك في كتابي «النقد الثقافي»، بينما الشاعرية أعمق وهي التي تتسق مع مفاهيم الوعي المختلف الذي ستمثله في هذه الحال مقولات باشلار حول شاعرية المكان وشاعرية أحلام اليقظة، وهذا وعي مختلف اختلافاً نوعياً عن التذوق الجمالي للشعر كجنس أدبي، أي أنه وعي يدخلنا للعلاقات الدقيقة بين العقل والروح مع لغة المكان ولغة وعي الإنسان بذاته ومحيطه، وسبل تأويل المفاهيم وتلمسها في الظواهر وفي التمثلات العميقة بوصف الإنسان نفسه لغة، وبوصف اللغة أم العلوم بديلاً عن ماضي الفلسفة حين كانت أم العلوم قبل انشقاق العلوم عنها وتجريدها من معظم أسئلتها، ولكن بقيت العلوم الإنسانية بحاجة لاجتراح منهجيات تستجيب للتوق الإنساني للمعرفة، مما يتسق مع فلسفة العلوم وفلسفة المعرفة، وفلسفة الشاعرية حسب مصطلح باشلار.

مشاركة :