خطاب الفلسفة اليوناني نثري، ويعتمد نظاماً فكرياً مركباً على أنه لا يجافي الشعرية، فسقراط وأفلاطون وأرسطو تتلبس خطاباتهم بالشعرية والسردية عبر استخدام الخيال السردي والشعري، من مثل مجازات سقراط وخطاباته البلاغية، وكذلك سرديات أفلاطون، وكهف أفلاطون مثال على ذلك، إضافةً لتوظيفه الحوار لتطويع بناء فكره الفلسفي ولكن الخطاب نفسه ليس شعراً، وإنما هو خطاب حجاجي وجدلي عماده المنطق. أما عربياً فالفلسفة جاءت بصيغة الحكمة، والحكمة الشعرية هي التي انغرست في الذهن العربي، ولكن الحكمة ليست شعراً بمعنى الوجدان الشعري، والمتنبي خير مثال عليها بالجمع بين الشعري والفلسفي، وأهمها نظام البيت المكتمل في مبناه ومعناه بحيث لا يفيض التعبير إلى ما يزيد على البيت الواحد، ولا يدخل في جدلية ولا في برهنة منطقية، وإنما هو قول جامع بليغ ومختصر، وهو الخطاب الذي يتقبله العقل العربي، حفظاً وتذوقاً واستشهاداً، ومن ثم تأتي الحكمة في صيغة جمل موزونة ومقفاة، وتتجاور مع أبيات خالصة الشعرية، ولكنها تحمل مصطلحها الخاص، كما تكشف مقولة المعري: أبوتمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري. وهذا مصطلحياً يسمى (التمثيل الخطابي)، وهو مصطلح ابتدأ عند الجرجاني وشرحه القرطاجني بقوله: فالأقاويل التي بهذه الصفة خطابيةٌ بما يكون فيها من إقناع، وشعريةٌ بما فيها من المحاكاة والخيالات (للتفصيل: كتابي «الخطيئة والتكفير»، الفصل الأول). فإذا قرأنا قول المتنبي (واحرّ قلباه) فهذه جملة شعرية وجدانية وذاتية، ولكن حين يقول (ولا مثل الشجاعة في الحكيم)، فهو هنا يطرح جملةً من نوع التمثيل الخطابي، لأنها قيمة إقناعية، وتجاري في الفلسفة كلمة أفلاطون عن الفيلسوف الحاكم، فالحكمة هي التي تحكم وتتحكم، وتعني أن العقل يحكم حسب أفلاطون، وعند المتنبي فالحكمة شرطٌ للشجاعة وهي قمة التمثل الشجاع المشروط بالتبصر، والشجاعة لا تستقيم إن كانت تهوراً وفي الوقت ذاته هي نقيض الجبن، ومن ثم هي منزلة دلالية مشروطة وشرطها الحكمة، وكلما تجلت الحكمة في الشجاعة فهي حالة وعي متعاليةٌ لا تسقط في التهور ولا تنحدر للجبن، فهي إذاً حال فلسفية دقيقة تعني سيطرة العقل على السلوك. وكل شعر الحكمة عربياً يقوم على المعادلة العقلانية، وهذه هي الفلسفة العربية وفي المصطلح هي الحكمة، حيث يجتمع شرط الشعر مع شرط الفكر في صيغة تتسم بالإحكام وميزان الضبط التعبيري، ومن ثم فهي الخطاب الأخلاقي والعقلاني للعربي الذي يعتمد الشعر، ليطلق عبره وجدانياته وعقلانياته، ويسمح لهما بالتجاور دون تنافر أو تقاطع. أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: انتصار الكتابة د. عبدالله الغذامي يكتب: جماليات الهزيمة * كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض
مشاركة :