اختلف المؤرخون في تحديد هوية أخوان الصفا، وإن كانو اتفقوا على كونهم جماعة فكرية عاشت في القرن الرابع الهجري، وتركت مؤلفاً شهيراً اسمه (رسائل أخوان الصفا وخلان الوفا) جمعت فيه خلاصة فلسفتها ورؤيتها للحياة. وأخوان الصفا شاعت رسائلهم بين الوراقين دون ذكر لأسمائهم، ولولا أن ورد ذكرهم في كتاب الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي لظنهم البعض جماعة متخيلة ولضاعت رسائلهم وتشتت بين المؤلفات، فنسبهم البعض للمعتزلة لأنهم يسمون أنفسهم في بداية الرسائل (بأهل العدل والتوحيد) والبعض الآخر قال إنهم ينتسبون إلى الطائفة (الإسماعيلية)، إلا أنهم يقدمون أنفسهم كحركة فكرية، لا يدعون لثورة ولا حق بالإمامة، بل هم أنصار الفلسفة إلى أبعد ما يكون، يعتبرون الأنبياء ويعبرون عنهم بالشريعة، ويعتبرون الفلاسفة والحكماء ويعبرون عنهم بالفلسفة، وللباحث (رشيد خيون) مؤلف مميز حولهم تحت عنوان (إخوان الصفا المفترى عليهم إعجاب وعجب) صادر عن دار مدارك. وبعيداً عن تصنيفهم عقدياً أو فكرياً، فإن المطالع لرسائلهم يصاب بالدهشة، لاسيما عند مطالعة الفصول الخاصة بالرياضيات والطبيعة والفلك في رسائلهم، حيث يتوصلون إلى نظريات احتاجت أوروبا ألف عام حتى تجعل منها كشفاً علمياً في عصر النهضة الأوروبية. فهم في رسالتهم التاسعة يقتربون من نظرية النشوء والارتقاء وأيضاً ما يسميه الغرب اليوم الانفجار الكبير big bang (إن الأمور الطبيعية أحدثت على تدريج على ممر الدهور والأزمان، وتمخض اللطيف من الكثيف حتى صارت الأشكال الفلكية الكروية، تركب جوفه في جوف بعض إلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة، وركزت مراكزها، وانتظمت نظامها) بينما تعرض علماء الفلك الأوروبيون كوبرينكس وجالليو إلى تنكيل محاكم التفتيش لاكتشافاتهم الفلكية. وقبل أن تكتشف أوروبا الكهرباء بألف عام وصف أخوان الصفا الشحنات السلبية والإيجابية في السحاب المحدثة للصواعق بقولهم (السحاب جسم منعقد من البخار، يتصاعد من الأرض لطيفاً ومن ثم يلتئم، وينعقد البخار الرطب مع اليابس، ويحدث ذلك صوتاً هائلاً اسمه الصواعق). وفي رسالتهم الثالثة المتعلقة بالقسم الرياضي يقولون (لأن القمر في نصف الشهر يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس، وتكون الأرض في الوسط، فتمنع نور الشمس عن إشراقه على القمر، فيرى القمر منكسفاً). هذا تفسيرهم لظاهرة الخسوف في الوقت الذي كان بسطاء وعامة زمانهم يظنون أن القمر قد ابتلعه حوت أثناء الكسوف!! أخوان الصفا نتاج عصر العقل الإسلامي الذهبي، بالتأكيد تأثروا بكتب الطبيعة والفلسفة اليونانية والسريانية وأضافوا لها بدورهم، وذلك عندما كانت دار الحكمة في العراق ترفع لواء العقل في زمن الرشيد والمأمون. لكن هذا لايمنع أيضاً على احتواء رسائلهم على الكثير من الأفكار الغنوصية والخزعبلات والتنجيم، والتي يعزوها الباحث (رشيد خيون) إلى الطابع التجميعي للرسائل ودور النسخة الوراقين في تلك الإضافات، ولكنه يشير أيضاً إلى أن هذا لم يفقد الرسائل قيمتها العلمية إلى درجة أن ابن خلدون في مقدمته قد نقل حرفياً فصولاً كاملة من رسائل أخوان الصفا. السؤال الآن: أين ذهبت منتجات العقل الإسلامي المتفوقة في تلك المرحلة؟ وأين اختفت وتلاشت؟ ما الأسيد الحارق الذي انسكب عليها فأذابها ومنع نهضة معرفية احتاجت البشرية ألف عام آخرى لتقدح زنادها؟ لماذا أخوان الصفا كانوا جماعة سرية تحت أرضية تنشر أفكارها خلف أسماء مستعارة ولا تجاهر بأسمائها؟ هل كان هناك رقابة عقدية شديدة ضدها منعت النشاط العقلي أن يتألق ويحلق ويجوب ملكوت المعرفة؟ أين العقل الإسلامي وما الذي أفضى بنا إلى زمن الشعوذة والخرافة والاستسلام لعقيدة النقل والعنعنة الخاملة أسيرة النص، الحاجبة للفضول الفطري للإنسان باتجاه السؤال والمعرفة؟ جماعة أخوان الصفا جماعة ومضت وخبت.. سادت وبادت.. ليعود العالم الإسلامي يسأل عن ثقافة العقل...أين عقلي؟ لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :