ذكر رئيس هيئة الفساد رقماً عجيباً لإحصائية قامت بها الهيئة أن 88% من حالات الفساد لدينا تقوم لغياب الوازع الديني!! ومابرحت ذاكرتنا مدماة بمشهد الهندي الذي قتل في رابعة النهار على مشهد ومرأى من الجميع، ومشهد آخر تتناقله وسائل الاتصال لوافد عربي تكاتف عليه مجموعة من الفتيان وضربوه بتوحش وجدعوا أنفه أمام ابنه الصغير. وأخيرا غرد أحد شيوخ التكفير على حسابه في تويتر حول جز رأس (هكذا) كاتبين ذكرهم بالاسم. هل الحالات السابقة تبرز إشكالية كبرى لدينا في العلاقة مع القيم الدينية والإنسانية؟ بالشكل الذي يجعلنا نتساءل عن منظومة القيم التي يحتكم لها مجتمعنا؟ سواء مايتعلق بالفساد الإداري وعلاقتنا مع المال العام، أو علاقتنا مع الغريب وابن السبيل المستأمن في أرضنا؟ أو في النهاية علاقتنا مع المختلف فكرياً؟ أمام هذا ولن يقول لي أحد هنا إنها حالات شاذة ومتطرفة، فإحصائية الفساد موثقة وجاءت على لسان مختص، وإزعاج الغرباء واستباحة حدودهم باتت سوياً مع التفحيط أحد وسائل الترفية التي يمارسها بعض صبيتنا في أوقات الفراغ، بينما جز الرؤوس هي الوسيلة الناجعة لحل المشكلة منذ عمق التاريخ، فقد قال يوماً ما خالد القسري والي الأمويين على العراق (ضحّوا فإني مضح بالجعد بن درهم) والجعد بن الدرهم لم يكن عليه حد أو قاطع طريق بل كان وقتها من كبار الفقهاء الذين قدموا العقل على النقل. وأمام هذا سأعيد تكرار السؤال.. هل القيم التي نتشربها عبر كل المنابر المتاحة فشلت في تأسيس وعي وخلق فرد سوي صالح بمرجعية دينية وأخلاقية تكبحه عن الانحدار؟ هذا الفرد الذي أعتقد أنه يتعرض لأكبر كمية من الضخ الوعظي لربما على مستوى العالم، ولاأدري هل هناك دراسة حول عدد الساعات الوعظية التي تطوق الفرد السعودي منذ نعومة أظفاره إلى أن يستوي ويبلغ أشده أم لا؟ ولكن الذي أعرفه أنه عبر كل المنابر المتاحة، ابتدأ من المدرسة والمسجد، ووسائل الإعلام، والمنشورات والمطويات والكتيبات والمقاطع المصورة الواعظة و(هناك موسيقى اخفض الصوت)، ومكبر صوت هيئة النهي عن المنكر المستنكرالواعظ الجازر.. رغم جميع ماسبق لم تتخلق لدينا مدينة الملائكة بل في أول خطوة إلى الخارج، وعندما يصبح موظف الجوازات خلف ظهورنا نرى شيئاً عجباً. في الخارج ومع غياب الرقابة، سيصبح الأمر مختلفاً تماماً ولن يحميك سوى أخلاقك والمنزل الذي خرجت منه والعائلة التي أنشأتك، وعدا ذلك فجميع الطوفان الهادر الذي كان يطوقك من الوعظ والتخويف وبث الرعب لن تستحضره على مستوى الممارسة اليومية، لأنه لم يصبح جزءاً من تكوينك ورادعاً يقظاً لسلوكك، ومكرساً لمشاعر الاحترام والإنسانية لمن حولك. التفلت الأخلاقي أعتقد هو الوجه الآخر للإرهاب والعنف، وكلاهما نتاج ومخرجات ممارسة وعظية فاشلة تقليدية، تقوم على العنف والتوبيخ والجزر والتجسس والتلصص على العورات، وتضييق الواسع وسد الذرائع، والإقصاء والطمس، حتى تحولت السوق الوعظية إلى مزاد علني يتسابق نحوها الوعاظ أيهم أعلى صوتاً وأيهم تنتفخ أوداجه أكثر، وأيهم يتفوق في عدد متابعيه على تويتر؟ ماسبق خلق حالة من الانفصام بين الدين كقيمة روحية عليا تترافق مع القيم الإخلاقية كارتباط شرطي، متمم لمكارم الأخلاق. والوعظ كمجموع من الوصايا المتجهمة المكفنة بالعويل والويل والثبور وعظائم الأمور. بشاعة الحوادث السابقة.. تخلق حالة قلق اتجاه منظومة القيم التي يحتكم إليها المجتمع.. فالواقع يخبرنا رغم الهدير الوعظي المكثف.. لم يكن هناك طحن.
مشاركة :