الرياض ليست ابنة لعصر النفط، وليست طفرة أسمنتية طارئة لاقتصاد ريعي، كما هي عشرات المدن التي تصطف على شواطئ خليج العرب. الرياض تقبع في قلب جزيرة العرب قبل التاريخ، وقبل الأبجدية، وقبل الخرائط والحدود، فتمنح المكان خصائصه وهويته، توالى عليها أفواج من القبائل فمنهم طسم وجديس من العرب البائدة في 715 ق.م، وكانوا أهل تحضر وعمران كما يشير العلامة حمد الجاسر في كتابه (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ). بينما تشير حفريات ونقوش قرية الفاو إلى حضارة متميزة ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، قبل أن يستقر بها بنو حنيفة لتصبح عاصمة اقليم اليمامة وكانت تسمى (حجر الخضراء) لوفرة مياهها ونضرة زروعها ويقول ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان إن اسم حجر يرجع إلى عبيد الحنفي حين احتجز ثلاثين قصراً وثلاثين حديقة وسماها حجراً، فعمل أبناؤها بزراعة الحبوب والغلال والنخيل، بالإضافة إلى تسيير القوافل التجارية إلى الحيرة وفارس، حيث كانت أبنيتها طولها ما بين خمسمئة ومئتي ذراع في السماء، ويقول إنه من شرفة احدى تلك المباني نظرت (زرقاء اليمامة) إلى الغزاة القادمين. وقد بقي اسم (حجر) معروفا إلى منتصف القرن الماضي، وكان يطلق على قصر يقع وسط نخيل في البطحاء، ثم انحصر الاسم في بئر ذلك النخل، فصارت تعرف ببئر حجر، ثم ردمت هذه البئر، وبنى وزير المالية في أرضها دكاكين أصبحت تعرف بشارع الوزير، وهو الآن شارع الملك فيصل. ما سبق هو لمحة خاطفة عن التاريخ الجزل لمدينة الرياض، لايخضع للمؤقت والآني أو ينحصر بحقبات محدودة، بل هو يغور عميقا في التاريخ، ويشير إلى حضارات مستقرة توالت على المكان، حيث كان هناك زراعة ونخيل ومحصولات إلى درجة أن الحجاز كانت تعتمد على حنطة نجد في معاشها، وجاء في الأثر أن الصحابي ثمامة بن آثال الحنفي حجب الحنطة عن الحجاز وقال (لاتأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن بها النبي صلى الله عليه وسلم). جميع ماسبق يرسخ أهمية خبر تأسيس شركة إسكان حكومية على مساحة 15 كم مربع للاعتناء بوسط الرياض، والامكانات الهائلة التي رصدت لهذا المشروع تتوازى مع أهمية الرياض التاريخية، والحضرية، وكعاصمة تبرز واجهة للمملكة. لأنه في الحقيقة وسط الرياض وتاريخها وإرثها مختطف، كثيرا كتبت وكتب سواي عن وسط العاصمة المتواري المغيب الغائب عن الاهتمام، حيث يظهر هناك الإهمال والتغاضي في مناطق كالبطحاء وماجاورها من الأحياء فتتبدى بنى تحتية مهلهلة كئيبة، وعمالة رثة، وتكدس بشري غير منظم، وممارسات يغيب عنها الذوق والتمدن وتطالها أحيانا الخروقات الأمنية، وورغم جمال العمران في المنطقة المحيطة بالجامع الكبير وقلعة المصمك، إلا أنها بدورها تعاني من الإهمال وسوء الصيانة، مع صعوبة الوصول لها. وسط المدينة هو هويتها وعبقها وتاريخها، وأي فائدة أن ندرّس الأجيال تاريخهم وحضارتهم، وهم يشاهدون حالة الإهمال واللامبالاة التي يكابدها هذا التاريخ على أيدينا؟ لذا نتحلق حول هذا المشروع الكبير الذي أطلقته الدولة لتطوير هذه المنطقة، ونصبو أن تترك أول خطوة تطويرية للمؤرخين وعلماء الآثار، فتطوق الأماكن الأثرية (أو ماتبقى منها) وتوضع تحت حماية هيئة الآثار وتسور ويمنع تطويرها إلا عبر المحترفين المدربين في هذا المجال. ومن ثم إذا اكتملت هذه الخطوة ينطلق هذا المشروع الهائل الذي لطالما ترقبته مدينة الرياض. إنها الرياض جدرانها تقص التاريخ فتصغي لها النجوم. إنها الرياض انشطار الكواكب في سعف النخيل. إنها الرياض فيها تنسكب القوافل ومنها ينساب القصيد. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :