سيماء الحزن والتفجع تكسو هيئة عبدالله التويجري (أبو مفجر مسجد الإمام الرضا) بينما وجهه قد هلهلته اللوعة فدوي الانفجار طاش بقلبه عن مكانه ولن يعود إليه بعد الآن. ذهب للمشاركة في تشييع شهداء المسجد، ومابرحت يد ابنه في كفه رطبة، تماماً كيوم ذهابهما سوياً لأول مرة لصلاة العيد عندما كانت الأحلام شاسعة خضراء، وكان طفله وقتها يرتدي طاقية زري واسعة على رأسه الصغير، وحذاء جديداً لم تألف قدماه السير به، بعد الصلاة ظل الأب واقفاً هناك أمام بوابة المسجد ينتظر أوبة عبدالرحمن، ولكنه لم يعد. يذكر بأنه وضع في حقيبته في يومه المدرسي الأول كل متطلباته الأقلام والمساطر، ودفاتر أبو 60 ورقة، وقائمة طويلة من الأحلام، وأيضا أوصى الطير الأخضر أو الطير الكحالي وهو الطائر النمام الصغير الذي ينقل للأهل عادة ماذا يصنع الصغار في غيبتهم. كثير ما ثرثر به الطير الأخضر.. منه بأن ابنهم ذهب إلى المسجد وصلى الفجر فانسكب ضياء الخالق في روحه، وأصبحت روحه نضرة نقية تتقبل كل ما يأتيها عن درب الرحمن. ذهب إلى المدرسة وكان نجيباً فاصطف الأول في طابوره فكان موضوع الإذاعة المدرسية عن متاع الغرور، وعن الدنيا دار عبور، وأن المآل والاستقرار هناك.. وليس هنا. وأخبر الطير الأخضر أيضاً بأن الحصة الأولى كانت رياضيات، فاختار المدرس أن يقتطع عشر دقائق من بدايتها ليبين للطلاب أهمية فريضة الجهاد كفريضة غائبة مغيبة، وفرق لهم بين جهاد الدفع وجهاد الطلب، قبل أن يشرح لهم القسمة المطولة، ومعادلات الدرجة الثانية. الحصة الثانية والثالثة كانت لمطالعة قصيدة رثائية للعشماوي. الفسحة كانت من بطولة (آلة العود) فقد جمع منهم أول الأسبوع مدرس النشاط مبلغاً مالياً لشراء (آلة العود) ولم يكن الهدف هو تعلم العزف والصعود فوق السلم الموسيقي إلى حيث تهذيب النوازع والسمو بالمشاعر والأحاسيس.. لا فالموضوع يفوق هذا الهراء.. النشاط كان تدمير آلة العود، تأمل عبدالرحمن المشهد بعمق، وعرف بأن التحطيم والإبادة هي أقصر الطرق للوصول. الحصة الرابعة كانت فسحة قذف بها مدرس الرياضة الكرة في ملعب المدرسة وطلب منهم أن يتراكضوا خلفها وانشغل المدرس بإعداد دفتر تحضير اليوم التالي. الرابعة كانت حصة التوحيد حيث أكمل فيها المعلم مهمته الرامية إلى بيان فساد معتقد شعوب الأرض عدا الفرقة الناجية، وأما في حصة الفقة فقد كانت عن نواقض الوضوء وكانت بها أمور مخجلة استحى عبدالرحمن أن يسأل عنها، فبقيت غامضة في صدره، وأجل حلها إلى دار المستقر والمآب. يسترسل الطير الأخضر قائلاً: ظلت الأسئلة واللواعج في أعماق عبدالرحمن غامضة بلا إجابة، حتى حلقة تحفيظ القرآن التي كان يذهب لها بعد العصر عجزت أن تجيب على هواجسه، لا يتدارسون بها حلاوة وطلاوة الآيات وسبل الخشوع بين يديها، فمعلم الحلقة كان طوال الوقت مشغولاً بسن سكين هائلة ليقسم بها العالم إلى قسمين: ضوء/ظلمة، خير/شر، دار الحرب/دار الإسلام، وبيارق دولة الخلافة التي تومض قادمة في الأفق.. لم يكن هناك من يؤصل لإعمار الكون.. حول عبدالرحمن لم يحدثه أحد حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) ومن ثم يشاركه غرس حقل نخيل أمام بوابة المدرسة، حقل يظله من هجير الأسئلة الحارقة ويدفعه لحقول الغراس والمستقبل. لم يعلمه أحد صناعة الحياة فكان أول أجوبته على العالم حوله.. صناعة الموت صمت الطير الأخضر ورفض أن يسترسل. الأب مابرح ينتظر فقد علق فوق حقيبة عبدالرحمن قوائم أحلامه. من فرغ حقيبة عبدالرحمن ووضع بدلاً منها حزاماً ناسفاً محشوا بالكراهية؟ من سرق حلم عائلة ووطن؟ omaimakhamis@yahoo.com لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :