ليس هناك خطر على الاقتصاد العالمي أقوى من التقلبات التي تخرج عن السيطرة. وصعوبة مواجهة هذه التقلبات تكمن في هشاشة الوضع الاقتصادي العام، الآتية بالطبع من أزمات متلاحقة، بصرف النظر عن مدى عنفها، ومن نزاعات تتأرجح بين العسكرية والتجارية والسياسية، يقترب بعضها من حالة استدامة مخيفة حقاً. والعقود الثلاثة الماضية، حفلت (باستثناء فترة الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في العام 2008) بتدفقات رأس المال والسلع والخدمات، وبعمليات اندماج محورية كبرى. أدى ذلك إلى رفع حجم الاقتصاد العالمي بمقدار ثلاثة أضعاف، ما ساهم بقوة في انتشال 1.3 مليار نسمة من براثن الفقر المدقع. وهذا ما يفسر بالفعل النجاحات المتتالية التي حققتها البرامج الإنمائية للأمم المتحدة وشملت كل ميدان تقريباً. لكن الأمور لم تدم، في ظل المخاطر المتصاعدة الناتجة عما أسماه صندوق النقد الدولي بـ «التشتت الجغرافي-الاقتصادي». فالعوامل كثيرة، في مقدمتها التقلبات التي تحدث حالياً في الأسواق المالية، ومشاكل التغير المناخي، والحرب المحتدمة في أوكرانيا، والآثار التي تركتها جائحة «كورونا» على الساحة. وفوق كل هذا، يأتي التراخي الذي صاحب رفع حجم الاقتصاد العالمي. ما يعني أن النجاحات التي تحققت في العقود القليلة الماضية، حجبت في الواقع تفاقماً متزايداً من عدم المساواة في توزيع الدخل والفرص والثروة. فالتغييرات المتسارعة التي حدثت في ميادين الصناعة والابتكار والتكنولوجيا، أوجدت منافسة عالمية يستحيل على عدد كبير من البلدان أن تخوض غمارها، حتى مع جهود الحكومات فيها لتوفير المساعدة لشركاتها ومؤسساتها، ولخطوط إنتاجها المختلفة. والذي عمق فداحة هذا المشهد، تلك النزعة الحمائية التي ظهرت في الأعوام القليلة الماضية، وهي سنوات عمت بالمعارك (وحتى الحروب) التجارية، بين دول متقدمة ترسم في الواقع معالم شكل الاقتصادي العالمي. بل إن هذه المعارك نشبت بين بلدان متحالفة تاريخياً مع بعضها البعض. الوضع العالمي اهتز بالفعل، وزادت من اهتزازاته أزمة «كورونا» التي لم يتوقعها أحد، لتستكمل الحرب في أوكرانيا فداحة المشهد العام. هذه الحرب أدت حتى إلى قيام بعض الدول المنتجة للغذاء بوقف صادراتها لتحصين أمنها الغذائي الوطني. فكيف الحال بالميادين الإنتاجية الأخرى، التي تمثل في النهاية الرافد الأهم والأقوى لاقتصاداتها؟ من هنا، يمكن النظر إلى التحذيرات من مخاطر التشتت الاقتصادي بشكل عام، التي أنتجت ما يمكن وصفه بـ «العدائية الاقتصادية» الأكثر عنفاً من الحرب التجارية. لا توجد دولة أو كيان خارج نطاق الأضرار من المخاطر الاقتصادية الراهنة، بمن فيها الدول المتقدمة التي تستند إلى قواعد صلبة ومستدامة. نحن نرى يومياً الآثار الضاربة لارتفاعات تاريخية للتضخم على مستوى العالم، ونشهد أيضاً المشاكل الناتجة عن الديون الهائلة التي لا يتوقف مؤشرها عن الزيادة. وهذه النقطة بحد ذاتها قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر فجأة. والحل الوحيد لتجميل المشهد، معروف الجميع، وهو التعاون الدولي. فلا يمكن مواجهة مصيبة دولية بأدوات محلية، مهما كانت قوة هذه الأدوات.
مشاركة :