في ظل الأزمات الاقتصادية التي يمر بها العالم منذ مطلع العقد الحالي على الأقل، صار ما يسمى بـ «الهبوط الاقتصادي الناعم» بمثابة نجاح على صعيد معالجة هذه الأزمات. وهذا النوع من الهبوط يكون عادة بديلاً عن الركود الذي يترك آثاره على الساحة لفترات طويلة. لا أحد يرغب حقاً بمرور اقتصاد بلاده في حالة من الركود بصرف النظر عن مدتها. فالاقتصاد العالمي عموماً يعاني مصاعب جمة. صحيح أنها خفت في الفترة الماضية، عبر نجاح الحكومات في تخفيف ضربات الموجة التضخمية التي لا تزال موجودة، لكن الصحيح أيضاً، أن الآثار الحادة التي تركتها هذه الموجة ستبقى حاضرة في الميدان لفترة لن تكون قصيرة. تتزايد المؤشرات التي تدل على أن الاقتصادات الغربية عموماً، تتجه بالفعل إلى هبوط ناعم، وهذا يعني أن سياسة التشديد النقدي التي اتبعتها البنوك المركزية المختلفة، أثمرت في خفض التضخم، فضلاً عن أنها أتت بالتدريج وبزيادات بسيطة كل مرة. فالهبوط الاقتصادي الحاد يتوالد عادة عبر رفع كبير لأسعار الفائدة في فترات زمنية قصيرة. ورغم أن المشرعين الماليين أبقوا الباب مفتوحاً أمام زيادات أخرى في تكاليف الاقتراض إذا ما دعت الحاجة لذلك في المستقبل، إلا أن مستويات أسعار المستهلكين الراهنة تخفف من احتمالات العودة إلى التشديد النقدي. فالتضخم في الولايات المتحدة، بلغ 3.2% في أكتوبر الماضي، حتى وإن وصل إلى هذا المستوى مرتفعاً قليلاً عما كان عليه في الشهر الذي سبقه. والوضع في الاتحاد الأوروبي عموماً وفي منطقة اليورو على وجه الخصوص، يبدو للمرة الأولى أفضل منه في هذا المجال مقارنة بالساحة الأميركية. فقد سجل التضخم في «اليورو» 2.4% في الشهر الماضي. ويبدو واضحاً أنه يقترب من الحد الأقصى الرسمي «المسموح به» عند 2%. لكن هذا لا يمكن أن يمنع دخول الاقتصادات ساحة الهبوط الناعم، خصوصاً في ظل المصاعب التي تواجهها على صعيد ديون الشركات والحكومات، ومشاكل متعاظمة في قطاعات محددة، مثل قطاع العقارات الذي يعد محورياً في الاقتصادات المتقدمة عموماً. ناهيك عن تأخر الوصول إلى إصلاحات المالية باتت ضرورية جداً، لتأمين عودة الاقتصادات المشار إليها إلى مساراتها ما قبل الأزمة الراهنة التي توالدت من جائحة «كورونا»، ومن اضطراب سلاسل التوريد، ومن الحرب الدائرة حالياً في أوكرانيا، إلى جانب تصاعد الخلافات الجيوسياسية وتأثيراتها على الساحة الدولية. في ظل هذا المشهد، لا يستبعد المشرعون في البنك المركزي الأوروبي - مثلاً - دخول الاقتصادات العالمية والأوروبية في حالة هبوط ناعم في المستقبل القريب. أي أنها ستمر في هذا الهبوط خلال العام المقبل، ما يعني أنها ربما تمكنت حقاً من تفادي الركود الصعب. فحتى وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين تعتبر أن التباطؤ الاقتصادي بمثابة انتصار للجهود التي يبذلها المشرعون على الساحة الأميركية؛ لأن البديل ليس إلا ركود قد تصعب السيطرة عليه في زمن قصير.
مشاركة :