كلُّ مَن تلقاه من شعوب العالم يشكو دهره.. ولأنَّ الاقتصاد عصب الحياة، فترشيد الإنفاق أصبح مألوفًا، وغدت السيولة النقديَّة ترفًا لا ينعم بها إلاَّ قلَّة، ويشتكي من ندرتها البائع والمشتري، ويعاني من تداعياتها الصانع والموزِّع. وممَّا فاقم الأمر، كساد المعروضات في الأسواق لعجز قدرة المستهلكين على الشراء، وضرورة تصريفها في وقت قصير ليدور دولاب العمل والإنتاج، وكلَّما تباطأت حركة البيع تعذَّر على الموزِّع والصانع تسديد التزاماتهم؛ لذلك نراهم يُعلِّقون الكثير من الآمال على المواسم والأعياد، حيث يصبح الطلب شديدًا على المواد الغذائيَّة والهدايا وألعاب الأطفال. ولتسهيل الأمر، تغتنم البنوك الفرصة بتقديم تسهيلات الدفع، لتشجيع مراكز التسويق على البيع المؤجَّل بدون فائدة لمدَّة سنة كاملة، وبتخفيضات تبدأ بـ30%، وتصل مع بداية السنة الميلاديَّة الجديدة إلى 70% على العديد من السلع الاستهلاكيَّة.
هذه التخفيضات لا تشكِّل خسارة للموزِّعين؛ لكونهم يعرضون المنتجات للبيع بسعر يصل لأربعة أضعاف قيمتها الأصليَّة. وبتخفيض السعر إلى سبعين من المئة من التكلفة، تُعرض السلعة في المواسم بسعر التكلفة. وبهذا يغري تدنِّي الأسعار المترددين للشراء، مستفيدين من بطاقات الائتمان التي قضت على غريزة الادِّخار، ملغية مقولة جدَّاتنا: «وفِّر قرشك الأبيض لليوم الأسود». فالشعوب العربيَّة وشعوب البحر الأبيض المتوسّط هم الأكثر استهلاكًا لما يصل جيوبهم من نقد تأسِّيًا بمقولة: «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب». غير أنَّ بعضهم يُغالي في الاستدانة من البنوك والأقرباء والأصدقاء مُردِّدًا: «عمره مُفلس ما عُلِّق على المشنقة».
ظاهرة الصرف بدون حدود، والاعتماد على بطاقات الائتمان، التي تُروِّج لها البنوك، لا تجدها في ثقافة الشعوب المتقدِّمة اجتماعيًّا واقتصاديًّا بشكلٍ عام، وأخصُّ منهم في المقدَّمة اليابانيُين، الذين رغم تأثُّرهم بالثقافة الغربيَّة في بعض جوانب الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، إلاَّ أنَّهم ما يزالون مُتمسِّكين بكثيرٍ من العادات الموروثة؛ ما يتعلَّق منها بالجوانب الاجتماعيَّة والثقافيَّة خاصَّة. ومن هذه العادات اهتمامهم بالادِّخار منذ الصغر، مع أنَّ متوسِّط دخل الفرد السنوي منهم بلغ 36899 دولارًا عام 2013؛ وفق بيانات صندوق النقد الدولي. وهذا ما جعل اليابان واحدة من أكثر الدول الدائنة بمدَّخراتها الهائلة، التي استطاعت جمعها من عمليَّات تصدير منتجاتها، ومن ادِّخار ربَّات البيوت. ومع أنَّ ديون الحكومة اليابانيَّة كبيرة، إِلاَّ أنَّه لا توجد في اليابان ظاهرة القروض الشخصيَّة التي تعتمد على البطاقات الائتمانيَّة، كما هو الحال لدينا، ولدى العديد من الدول المُقلِّدة للأسلوب الغربي في الصرف، أو رهن المنازل أو العقار، الذي أدَّى إلى كارثة ماليَّة كبرى في الولايات المتَّحدة، وتأثَّرت من تداعياتها معظم الدول.
يقول تعالى في محكم التنزيل: «وَلاَ تَغْلُلْ يَدَكَ إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا».. وقانا الله وإيَّاكم شرَّ الدَّين والعجزَ عن سداده.