مرجعيات ثقافية في الرواية الخليجية.. مـرجعيات الـروايـة (1)

  • 1/30/2016
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

إن واقع التجارب الأدبية والفنية في المجتمعات الإنسانية، هي إبداعات متعددة خرحت من رحم الحياة ومكوناتها المختلفة، وعبر إيمان عميق لدى المبدعات والمبدعين بأهمية إبراز هذه المنجزات التي تهم الإنسانية، فمنها وإليها، وهذا يعني أن الإبداع أياً كان نوعه وتاريخه وزمنه ومكانه فهو يتكئ على مجموعة من العناصر الموجودة في الحياة والمجتمع، وفي بطون الكتب، حيث تتعدد الموضوعات وتتنوع القضايا، وطالما هناك الخبرة والأصالة لدى المبدعة والمبدع، فإن هذا يسهم في تناول ما هو قديم وموجود بشكل جديد، وبطريقة متجددة تختلف عما كان في السابق، وهذا ما يعود بنا إلى مقولة الجاحظ الشهيرة: (المعاني مطروحة في الطريق)، أن الإبداع في العمل الروائي ليس في التناول للموضوعات والقضايا فحسب، وإنما في كيفية هذا التناول وآلية توظيف اللغة التي تحكي عن الموضوع. إن ظهور الرواية على المستوى العالمي فرض وجود من ينظر لها، ويتأمل حيثياتها، ويواكب حركتها، وكما يعرف المتابعون للرواية ونقد الرواية أن هناك من يراها بنت المدينة لما لها من خصيصة تختلف عن الأجناس الأدبية الأخرى، وإذا كان ميخائيل باختين يرى الرواية النوع الأدبي الذي لايزال في طور التكوين وغير المكتمل، فإنه يؤكد أيضا أن الرواية كانت منذ البداية مصنوعة من طينة تختلف عن طينة الأنواع الأخرى التي تحققت، وكان لها طبيعة مغايرة، ففيها وبها نشأ - نوعًا ما - مصير الأدب كله، ولذا عندما ولدت لم يكن بوسعها أن تصبح نوعاً بسيطاً ضمن الأنواع الأخرى، ولم تكن تستطيع إقامة علاقاتها بشكل تعايش هادئ ومتساوق، وأمام الرواية تصرفت جميع الأنواع الأخرى بصورة مغايرة، وبدأ صراع طويل لجعل هذه الأنواع تقترب من الرواية. ولإدخالها في نقطة الاتصال المباشر مع الواقع غير التام. وكانت مسيرة هذه الصراع معقدة وشائكة. إن أية قراءة صحيحة لنص سردي أو شعري أو مسرحي أو درامي أو فلسفي أو تاريخي أو أي نوع ومجال من مجالات الكتابات الإنسانية إذا كانت القراءة بحسب النظريات النقدية المعاصرة، فقد يشوبها نوع من الخطأ، وبالتحديد حين نجعل المؤلف عنصراً رئيساً لقراءة النص هذا أو ذاك، بل ربما يكون هناك تجاهل لقصدية النص، وهنا يأتي دور القارئ حيث إن النص كما يشير أمبرتو إيكو أنه جهاز والغاية منه إنتاج قارئ خاص به، وهذا القارئ ليس شخصاً قادراً على طرح تخمينات تكون وحدها دون غيرها جيدة. وعلى العكس من ذلك، يمكن للنص أن يتوقع قارئاً نموذجياً له الحق في إسقاط تخمينات لا متناهية، بمعنى آخر فإن الكاتب لا يمكنه أبداً ممارسة فعله الإبداعي في غياب مطلق ونهائي، مفترض أو صريح للقارئ الضمني، باعتباره هيئة تواصلية مجسدة على مستوى النص، تقوم مقام الحضور الشخصي، المباشر والمتزامن للمتلقي الفعلي في الخطاب الشفاهي، وفي الوقت نفسه القارئ بحاجة ماسة للوقوف على مدخل النص اللغوي، والجملة أو العبارة التي يأخذه النص نحو عوالمه المتعددة، لذلك فقد أشار مصطفى الضبع إلى هذا بقوله: يتجاوز الاستتهلال وظيفته التقليدية بوصفه ممهداً للنص، ومهيئاً للدخول للمتن، فالإشارات النصية التي يتضمنها الاستهلال تكاد تكون القانون النصي أو بداية التعاهد بين النص ومتلقيه، حيث يقدم النص نفسه وعلى المتلقي أن يكون على وعي بما يطرحه النص من إشارات دالة لا يمكن للتلقي أن يستقيم دون الوعي التام بها. والقارئ الفعلي هو مجرد ممثل يقدم تخمينات حول نوعية القارئ المثالي الذي يفترضه النص، وبما أن قصد النص هو بالأساس قارئ نموذجي قادر على تقديم تخمينات حوله، بمعنى أن النص يتطلب قارئا واعيا لديه من الكفاءة والدربة اللغوية والثقافية والمعرفية والفنية والجمالية ما يؤهله ليفك رموز النص وأبنيته، ويكشف عن دلالاته ويبرز طريقة تأويله، وهذا يتطلب أن يكون القارئ مثقفاً لديه رؤية وقرار عقلاني يستنير به في عمليات التحليل والتأويل، واضعاً في الاعتبار أن النص الروائي ربما يلاحظ فيه مرجعية من المرجعيات، والتي تعطينا جماليات في البناء والتركيب، ونصية في الدلالات والعلامات، وفي الوقت نفسه ربما يلاحظ ظهور الإيديولوجيا، حيث مهما كانت مرجعية النص الروائي، فإن برزو الإيديولوجية يعني هناك قيم واتجاهات تحاول هذه الإيديولوجية التكريز عليها أو بثها. كما أن مهمة القارئ النموذجي تكمن في تصور مؤلف نموذجي لن يكون هو المؤلف الفعلي الذي يتطابق في نهاية التحليل مع قصد النص، وهو ما يستدعي التأمل في النص على أنه لا يوجد إلا من خلال سلسلة ردود الأفعال التي يستثيرها، كما تمثل هذه السلسلة استعمالات لا متناهية للنص، وليس مجموعة التأويلات القائمة على حيثيات مقبولة حول قصد هذا النص. ولم تكن ولادة الرواية العربية بالشيء السهل، وإن كانت هناك إرهاصات سردية في الأدب العربي قديماً، مثل: كتاب ألف ليلة وليلة، وحكاياته المتداخلة وسرديته المتعددة والرؤية والهدف من وراء هذه الحكايات، وكذلك كتاب كليلة ودمنة لعبدالله بن المقفع وتوظيف الحيوان والرمز في طرح القضايا المجتمعية المختلفة، فضلا عن كتب السيرة كسيرة ابن هشام وسير الرحلات كسيرة أبي زيد الهلالي وسيرة سيف بن ذي يزن. وقد أسهمت كل هذه السرديات في تعبيد الطريق أمام الكتابة الإبداعية التي كان الشعر سيدها، ولكن بعد التأثيرات من الموروثات الثقافة العربية والأجنبية شرقاً وغرباً حاول المبدع العربي دخول تجربة الكتابة السردية، ولسنا هنا في الحديث عن أسبقية كتابة هذا الجنس أو هذا النوع أو هذا المجال، إلا أن الإشارة إلى رواية زينب لمحمد حسين هيكل بفتح كوة تجاة الكتابات الروائية، فأصدر توفيق الحكيم رواية عصفور من الشرق، وطه حسين كتب سيرته الذاتية بعنوان الأيام. ويشير جابر عصفور إلى أن رواية (غابة الحق) للكاتب فرانسيس فتح الله مراش أول عمل روائي عربي حديث، حيث صدرت الرواية في طبعتها الأولى في العام 1865 في حلب، والطبعة الثانية في العام 1881 ببيروت، والطبعة الثالثة بمصر في العام 1922، وإن هذا التباين في وجهات النظر باقية إلى أن الكتاب والمبدعين بعد ذلك ساروا على هذا الطريق الذي صار القارئ يحتار كثيراً بل يعجز عن ملاحقة الإصدارات السردية في المنطقة الخليجية.. فما بالك بالتي تصدر عربياً وعالمياً؟! ولو نظرنا إلى متون الروايات الخليجية، فالمؤثرات تكاد تكون واحدة وإن كانت متأخرة، ولكن حدثت ودخلت بشكل أو بآخر في جسد الرواية الخليجية التي صاحبها متابعة مباشرة من قبل الإنسان الخليجي، والكاتب على وجه الخصوص مسيرة الرواية العربية والصراعات العربية الفكرية والإيديولوجية، والتحولات السياسية والثقافية والاجتماعية ومواكبة الإبداع العربي لذلك الواقع آنذاك، وهو ليس أمراً غريباً في حركة المجتمعات وصراعاتها، وقبلنا أوروبا التي مرت بمراحل من الصراع والحروب والتحولات الفكرية والإيديولوجية. كما كان الاستعمار الذي قبع بكل جبروته على العالم العربي حاول أن يغير من نسيج الثقافة العربية هنا وهناك، وفرض لغته لتكون اللغة الرسمية ومارس العديد من السلوكيات التي كان يسعى من خلالها إلى تغيير الهوية والثقافة، ولكنه لم يستطع تدمير الثقافة الوطنية العربية، بل كانت ولاتزال ثقافة عالمة حية، لغة وأدباً وديناً وفكراً متغلغلة في العقل والشعور في الفكر والسلوك. لقد تضر المجتمع الإنساني في كيفية بناء نفسه، وتكوين أفراده عبر العصور ليكونوا دعائم ثقافية واجتماعية واقتصادية تبني وتشيد المجتمع، لذلك حدثت تطورات كبيرة في المجتمعات الغربية بعد العصور الوسطى أو بعد عصر الهيمنة الكنسية ورجالاتها على مقدرات هذه المجتمعات، وتمظهر التطور في النهضة الأوروبية وفي عصر الأنوار، ثم حركة الحداثة وما بعدها. ولكن لم تبرز هذه المراحل بشكل مفاجئ أو جاءت جزافًا، وإنما عبر تراكم معرفي وحضاري وثقافي وتنويري، حيث برز في عصر النهضة بما يحمل من التحولات على الأصعدة الفكرية والفنية والأدبية وغيرها، وإن كانت إيطاليا مهد لهذه النهضة بحكم موقعها الاستراتيجي، ونزول عدد من العلماء هروباً وخوفاً من البطش العثماني آنذاك، فإن النهضة أسهمت في استقطاب العلماء والأدباء والفنانين، وسعت إلى احترام فكر الإنسان ودوره الاجتماعي، وما يحمله من رؤى جعلته التفريق بين ما يتعلق بالدين وما يتعلق بالحياة. ومع وجود الحراك الثقافي واختراع الطباعة بدأت النهضة في العمل على تمجيد فكر الإنسان من جهة، وتشجيع حركة التأليف من جهة أخرى، والسعي إلى تحفيز العلماء على الاكتشافات العلمية من جهة ثالثة، والاهتمام بالفن والتشكيل والأدب من جهة رابعة، لذلك برزت أسماء مهمة في الثقافة العالمية، أمثال دانتي، ووليم شكسبير، ورفائيل، ومايكل أنجلو، ودافنشي، وغيرهم. وجاءت حركة التننوير في المجتمع الأوروبي أو ما يسمى بعصر الأنوار الذي نشأ بوصفه حركة سياسية اجتماعية ثقافية فلسفية، وعلى الرغم من تلك الإرهاصات التي كانت لها البوادر الأولى لهذه الحركة في إيطاليا بحكم أن دورها في عصر النهضة كبير وجليان فإن النشأة كانت في إنجلترا ولكنها تطورت في فرنسا بحكم تطور الطبقة البرجوازية فيها، وهذا يعني أن عصر التنوير عم أوروبا، حيث أكد هذا العصر على البحث عن الحقيقة، وعدم التبعية للآخرين، بل الدعوة إلى التفكير المنطقي الشخصي والسلوك الفردي في الحياة، والسعى إلى التحرر من المعتقدات التي تعيق تطور الإنسان في المجتمع.

مشاركة :