نتابع عبر هذه الحلقة نشر كتاب (مرجعيات ثقافية في الرواية الخليجية) للناقد الدكتور فهد حسين... تعمّد الروائي أن تكون هذه الحكايات مرجعية ليطرح من خلالها مجموعة من الأسئلة الدقيقة تجاهها، مثل: هل شهرزاد فعلاً هي من حكت كل هذه الحكايات أمام شهريار؟ هل المدة التي حددت هي فترة حقيقية؟ من أين لشهرزاد كل هذه الحكايات؟ هل كانت تقرأ من كتاب كما يعرف أن لديها مكتبة فيها الكثير من الكتب؟ هل فعلاً هي سرديات وحكايات حكيت في واقع وحياة الزوجة والزوج؟ وإذا كان شهريار يسمع طوال الليل فمتى ينام؟ ومتى تنام شهرزاد؟ وإذا كان نوم شهريار صباحًا فكيف كان يرعى رعيته ومجتمعه ويلتقي بالناس وحاشيته؟ وكيف تمت المعاشرة الزوجية والاتصال بينهما حتى أنجبا الأبناء؟ وهل كتاب ألف ليلة وليلة كتبته شهرزاد؟ وإذا كان كذلك لم طلب الملك شهريار من بعض كتاب ذلك العصر تدوين ما قالته شهرزاد في تلك الليالي؟ وهل استطاعوا أن يكتبوا وهم لم يكونوا معهما؟ وبالفعل حاول هؤلاء الكتاب الكتابة كما أمرهم شهريار، ولكن ما كتبوه لا يتعدى عشرين صفحة، فكيف وصل لنا هذا الكم من السرديات والحكايات؟ فهل للحكوتيين في ذلك الزمن والأزمان المتعاقبة دور في زيادة بعض الحكايات أو خذف بعضها؟ وبخاصة أن هؤلاء يملكون القدرة على الزيادة والإضافة، وحينما وصلنا لنا كيف تم تلقيه وقراءته، بالطبع لم تكن في متخيل المتلقين آنذاك كما فعل كيليطو، وإنما كنا نفتخر ونتباهي كثيرًا بهذا الإنجاز منطلقين بدور كل من المرأة في المحافظة على حياتها من جهة، واللغة التي كانت معولاً فاعلاً في ردم غطرسة شهريار. وفي الإطار نفسه وبعيدًا عما حدث لكتاب ألف ليلة وليلة عند العرب وفي تراثنا، فهل للمستشرقين الغربيين دور في كتابة هذه الكتاب؟ بمعنى هل هو كتاب دون وكتب في الغرب ليتناول حكايات الشرق وبيان طبيعة المجتمع العربي الإسلامي في ذلك الوقت؟ إن زاوية الرؤية لدى كيليطو تكمن في أن العلاقة كما يقول لوكاش تتغير بين التاريخ والشكلية عبر الأزمان الحديثة، بمعنى آخر أن الكاتب لم يأتِ بشخصية شهرزاد ليؤكد على عظمتها ودورها التاريخي، وإنما في خلخلة الهالة التي كانت قد سيجت حول تاريخها وعظمتها السردية والإبداعية والمصيرية. وعندنا في منطقة الخليج العربية الروائي إسماعيل فهد إسماعيل وروايته (الكائن الظل) التي تتوافق في أمور كثيرة مع ما طرحه الباحث عبدالفتاح كيليطو في روايته (أنبئوني بالرؤيا)، فالاثنان، أي العملين الروائيين اعتمدا على التراث التاريخي الأدبي، وأخذا من عصر يكاد واحد وهو العصر العباسي، وأن الشخصية الروائية لكل منهما كانت تعد أطروحة أكاديمية، أما الفارق بينهما فيكمن في مكان الشخصيتين الروائية، والتعامل مع الإرث التاريخي وكيفية محاورته. لقد استحضر إسماعيل فهد إسماعيل حكايات اللصوص والعيارين ودورهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية آنذاك، إذ جعل الراوي وهو الشخصية الرئيسة في الرواية إحدى الشخصيات التي ينبغي الحديث عنها في أطروحته الأكاديمية، هي: حمدون بن حمدي، وهي من الشخصيات المشهورة في العصر العباسي بوصفها لصًا. فضلاً عن أن كاتب النص الروائي كان واعيًا ومدركًا بعمق ما سيتناوله من قضية تاريخية اجتماعية أدبية، ذلك بين أن نصه اتكأ على كتاب حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي للدكتور محمد رجب النجار، وكتاب أشعار اللصوص وأخبارهم لعبدالمعين الملوحي، وهذا مؤشر مهم في التعامل مع المرجعية التاريخية التي يأخذها الكاتب وبحذر شديد حتى لا يتحول النص إلى نص تاريخي ويفقد قيمته الإبداعية والتخييلية. جاء الاتكاء عبر نسج العلاقة بين الشخصية الروائية المتحاورة مع الجسد الأثيري التي تبرز تدريجيًا من خلال سرد النص والحوار بين عقلين في جسدين مختلفين، جسد حقيقي يرى من قبل الكل، وجسد لا يراه إلا المتحاور معه، إذ كشف عن اسمه الذي يعرف أنه حرامي بغداد، وهذا يعني أنه من اللصوص والمحتالين. ولأن الشخصية الروائية كانت تبحث عن كتاب (حيل اللصوص) للجاحظ ليكون مثبتًا في قائمة المصادر والمراجع، وبالصدف يرى الكتاب أمامه وقد أحضرته الشخصية الأثيرية التي تقول عنه: يعتبر هذا الكتاب لدى عامة اللصوص وخاصيتهم مرجعًا دستوريًا لا غنى عنه... لن تجد لصًا محترفًا شريفًا لا يحتفظ بنسخة له، يحرص عليها مثل حرصه على كرامة مهنته. وتكمن أهمية المرجعية وحضورها في النص أنها ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين المرجعية والنص والكاتب والقارئ أيضا، وهذا ما أشار إليه النص عبر المسائل الخلافية في فهم النصوص التي وصلت إلى العص الحديث بالتواتر والنقل، ووقفت الرواية على فهم ما يرمي إليه شعر إحدى الشخصيات المتصفة باللصوصية، وهي شخصية مالك بن الريب، وكيف يقرأ النص الشعري حيث تواصل الرواية دورها في أهمية المرجعية التاريخية ليدور حوار بين الشخصيتين الحقيقية والأثيرية، فقد قرأت الشخصية الحقيقة البيت: ألم ترني بعت الضلالة بالهوى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيًا ولكن ابن حمدي قرأه بشكل آخر فيقول: ألم ترني بعت السيادة بالهوى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيًا ومن خلال هذا البيت الذي هو في الأصل ضمن قصيدة كتبها يرثي بها نفسه حين ما لسعة أفعى كما يقال وانتشر السم في جسده، ويقول في مطلعها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا. وكذاك من خلال الحوار الذي دار بينهما، أي بين الشخصية الروائية والشخصية الهلامية ابن حمدون تكشف الرواية كيفية فهم التاريخ والنقل وقراءة النص الذي يصل عمره إلى قرون، وأهمية هذه القراءة الداعية إلى الفحص، وقد تعمد الكاتب إلى طرح المحاورة بين الشخصيتين، كما طرح كليليطو أسئلته حول حكايات ألف ليلة وليلة، والمحاورة جاءت بقول ابن حمدي أنهما مختلفان حول صياغة صدر البيت، وهنا جاءت أسئلته التي وجهها إلى الشخصية الحقيقية: كم عدد أبيات الشعر المنسوبة ضمن كتبكم لشاعرنا مالك بن الريب؟ كم عدد الأبيات غير الموثوق بنسبها إليه؟ لِمَ هذه القصيدة بالذات التي ذكرت مطلعها؟ من منا أقرب إلى عصره؟ من منا أقرب إليه في مهنته وانتمائه؟ من منا أكثر حرصًا وأشد غيرةً عليه؟ من أين لك يقينك بصواب رأيك؟ ألأنك قرأت بيتًا موضع خلاف مثبتًا في كتب نقلت عن آخرى... عن أخرى؟ وبين هذا الحوار الذي أخذت مساحته الشخصية الأثيرية النظر إلى البيت من خلال سياق النص نفسه، وسياق كاتبها، وسياق عصره، وهنا تكمن المرجعية في العمل حيث لم يعد اليوم محصورًا بين فكرة موضوع ومتخيل بقدر ما يعطي النص مساحات فارغة، ومساحات بها ثقوب وعلى القارئ الإيجابي مهمة التأمل في هذه الثقوب وطرائق ملأها بما يراه وبالدليل وفق السياقات المتعلقة بها، ومسيرتها منذ الانطلاقة حتى وصولها إلى القارئ في محيط زمانيتها ومكانيتها، وهذا ما أشار إليه جورج لوبران بأن القراءة التي تعتمد على مبدأ الاختلاف لا تنفي حاسة الاصغاء التي تدعو القراءة إلى تهذيبها وصقلها.
مشاركة :