نستكمل في هذه الحلقة، نشر كتاب مراجعات ثقافية في الرواية الخليجية للدكتور فهد حسين... لقد بدأت الحياة في تغيير مستمر، والمجتمع في تحولات مذهلة، إذ بات المكان محاطاً بالعمارات الشاهقة، والبنايات المرتفة، والفنادق الفخمة، والمراكز التجارية الواسعة المختلفة، وها هو الراوي يصف مكان أحد هذه المراكز التجارية التي يمكن سريان الوصف على المراكز كلها ليس من بلد خليجي واحد، وإنما في كل بلدان المنطقة، فهي مراكز تجارية لا تقدم حلاً، كلها مترعة صاخبة، ومحال تجارية عامرة، وبطون شرهة تتلقف الوجبات السريعة، وطفولة تشغل مرحها بالإنترنيت والصخب الإلكتروني.. أفواج بشرية مطحونة تموج بالممرات.. شباب يبدد طاقته ووقته وماله في مظهره وملبسه وتقليعاته.. نسوة فاتنات عاديات يقطرن عطراً وسحراً ويعبرن نسمات خاطفات بمهلهن الآسر قلوب السابلة. ونتيجة إلى هذا الأسلوب في الحياة بالنمطقة بدأت التغيرات والتحولات في العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين أفراد المجتمع من ججهة، وبين أفراد الأسرة الواحدة من جهة ثانية، وبين الموطنين والمقيمين والوافدين من جهة ثالثة، وبين تلك السبل التي تفرض البحث داخل هذه التغيرات من أجل الكسب المادي والملذات الجسدية والمالية والشهرة وغيرها، الأمر الذي يؤكد أن فكرة وجود نص يروي حقيقة ما أو الحقيقة كما تدركها ذات الروائي الذي تشكل بصائره معين المعني الوحيد والمشروع للنص ليس فقط فكرة يتعذر الدفاع عنها، بل هي فكرة لا يفكر فيها، لأن الإطار الذي يدعمها إطار الافتراضات والخطابات، أي طرائق التفكير والحديث لم يعد قائماً. ويرجع الروائي هذه التغييرات إلى مجموعة من القضايا طرأت وحدثت في المجتمع، مثل: الطفرة النفطية، النمو الاقتصادي، الانفتاح على الأسواق الأجنبية، انكفاء أبناء البلد على أمكنتهم الخاصة جداً، الشعور بالغربة لكثرة الأقوام والقوميات والجنسيات المتعددة، التباهي في طريقة العيش، دخول البعض بطرق غير قانونية والإقامة غير الشرعية، الانفتاح الاجتماعي الذي سهل لذة الجسد بشكل كبير، وغيرها من العناصر التي كانت ولاتزال له الدور في الحراك الموجود داخل المجتمعات الخليجية وإن تباينت النسب بين بلدان المنطقة، لذلك ربما أصيب الرواي بحسرة وألم شديدين حين قال: وغداً سنكتشف فيه مدى ضياعنا وغياب الفطرة والأوطان البكر ورحيل نمنمات الطبيعة ونشوة أصواتها الندية. ومما لا شك فيه أن العلاقة بين الأدب عامة والرواية بشكل خاص والمرجعية الاجتماعية علاقة وطيدة ومتينة، وتكاد تكون أكثر المرجعيات حظوة في النص الروائي، لأن الرواية تطرح الكثير من القضايا المجتمعية التي تتعلق بالمجتمع والإنسان والبيئة، وتتعلق بالأعراف والعادات والتقاليد، وبالعلاقات الإنسانية والحياة المعيشة، لذلك هناك ربط قوي بين النص الإبداعي الروائي والمجتمع والواقع سواء في الوقوف على طبيعة البشر أم على طبقات المجتمع وفئاته وشرائحه، أم على مهن هؤلاء البشر وحياتهم المعيشية، وهنا تحضر المرجعية الاجتماعية لكي تقدم بعض التفسيرات التي قد ترضاها بحسب المجتمع وقد تفندها أيضا. وربما الكثير من النتاج السردي، والروائي بشكل خاص يدخل ضمن السياق الاجتماعي المسطح البسيط وكذلك العميق والمعقد، وقد يكون هذا اللجوء إلى الكتابة من الواقع المعيش اجتماعياً مبنياً على طبيعة الثقافة التي تمثلها تجربة كاتب النص، فكثير من الأعمال تتناول المجتمع نقداً وكشفاً لأمراضه الاجتماعية المختلفة، ولكن من دون الاتكاء على مرجعية اجتماعية تعضد النص السردي، لذلك قلما تجد رواية خليجية لا تتناول الزواج، وتعدد الزوجات، والعلاقات الأسرية، والحب والعاطفة والسلطة الأبوية، وضعف المرأة. ولو نظرنا إلى واقع الرواية العربية في عصرنا هذا فإننا نرى أنه عصر الرواية التي تستمد الكثير من الحداثة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تأخذ الفرد نحو الإصلاح والتعديل، أي أن الرواية تسعى إلى نقل العلاقات الاجتماعية بين شخصياتها من الواحد إلى المتعدد، ومن المتجانس إلى المختلف، ومن المقدس إلى متحول لا قداسة فيه. وهنا تكمن القدرة والكيفية التي يتم فيها التناول ومناقشة الموضوع، وطريقة الطرح ومدى عمق ما يطرح والنص يسعى لكشف هذا الزيف هنا، أو ذاك هناك، وعملية التباين بين نص وآخر أيضا. ولدينا في منطقة الخليج العربية أعمال كثيرة ناقشت الأوضاع الاجتماعية وفق مرجعية اجتماعية وذات بعد ثقافي في الوقت نفسه كما هو في رواية (مزون.. وردة الصحراء) لفوزية السالم التي طرحت تعدد الزوجات والمسوغات الاقتصادية والتجارية والترحال الذي نتج عنه هذا التعدد، كما أظهرت طبيعة العلاقات العاطفية التي تكبحها العادات وتقيدها الأعراف في المجتمع من منطلق ثقافي سواء في نسج علاقة المرأة المرأة الخليجية بالرجل الغربي عاطفياً، أم برؤية المرأة المتعلمة تجاه قيم الحب العاطفي بين الجنسين. ويشير هذا إلى أن للرواية دوراً في كشف زيف المجتمع أيضا حيث يتخذ الروائيون الرواية وسيلة لوصف المجتمع وصفا دقيقا، كما كانوا يرون فضح الصراعات الثقافية والسياسية بقوة وعنف، إذ أن الرواية نفسها نتاج مجموعة من العناصر والرموز والأنساق التي يحاول الروائيون نسجها عبر اللغة والخيال لتصبح مجتمعاً قائماً بذاته وبمكوناته الرئيسة. وهو ما طرحته أيضا الروائية السعودية زينب حفني في أكثر من عمل لها، وتأتي رواية (آخر نساء لنجة) لتبرز البعد الاجتماعي بشكل كاشف للعلاقات الإنسانية والاجتماعية لدى العائلات الخليجية، في طبيعة التآلف والتماسك الأسري، وفي حالة التفكك أيضا من خلال شخصيات رجالية ونسوية مختلفة في الأعراق والجنسيات والهويات. إن الفرق بين الواقع المجتمعي أو الواقع المعيش وبين المتخيل فرق إذ ارتباط الإنسان بالواقع عامة، وواقعه على وجه الخصوص قد يدخله في إشكالية معرفية بين ما هو واقع وحياتي، وبين ما هو حقيقة ماثلة أمامه، وبين ما هو خيالي لا يستطيع الولوج إليه إلا عبر الأمنيات والأقوال العاطفية التي تدغدغ مشاعر الآخرين، لذلك حينما نقول: هذا عمل واقعي، وهذا واقع، وهذه تجربة واقعية، فعلينا أن نقف عند مفردة الواقع، لأنه يظل نسبياً بين أفراد المجتمع الواحد وفقا لتلك الرؤية وإلى الثقافة وإلى العلاقة بالموجودات والظواهر.
مشاركة :