في الوقت الذي تطرح المسائل الاجتماعية والعلاقات الإنسانية فإن البعد الديني حاضر في سرديتها من بعدين إيماني واجتماعي، فميعاد الراوية تبين حالة المحرق حينما تبدأ صفارات الإنذار التي باتت في استيقاظ دائم إبان غزو صدام حسين على الكويت، وعملية تحريرها، فتقول: في الليل، حين ترتج المحرق بصفارات الإنذار المعلنة للخطر، لا يختبئ الناس كالجرذان، بل يتحوّلون إلى سجادة صلاة ترتيلية، تصعد على أسطح البيوت، وتتهجد غوثًا من الله ألا تهبط الصاعقة. إن الخشوع والطاعة ليس في الإنسان فقط، ولكن لكل الكائنات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لذلك تشير إلى صوت الأذان وحالة الكائن عند سماعه إياه: في جلفار يسري الأذان كموكب للسلاطين، كل شيء يتوقف مستقبلا القبلة، ينهي الجبل حواره الأزلي مع البحر لدقائق خارجة من عمر الزمن، أسراب طيور الهدهد الممتدة على الجبال تعلن انحناء تيجانها للصوت، فتنزوي إلى ركن قصي متاح لطقوس العبادة. وفي تجربة الروائي البحريني حسين المحروس نجد المرجعية الثقافية المحلية هي المسيطرة على النص السردي، التي استقاها واتكأ عليها من خلال وجوده في المكان، والاتصال المباشر مع اللغة الشفاهية والمكتوية التي أخذها من الأفواه أو من الوثائق والسجلات، وتتمظهر هذه المرجعية بشكل واضح في الشخصيات والأمكنة والعادات والمؤثرات الداخلية والخارجية، وطبيعة الحياة وتقلباتها، كما وقف عند بعض الهوايات التي كان يمارسها الأولاد، مثل: تربية الحمام فهي هواية منتشرة في مناطق البحرين، قراها ومدنها، كما ناقش الجنس والعلاقات الجسدية بأشكال مختلفة، سواء تلك العلاقات التي كانت تمارس بصورة رسمية في منطقة بالنعيم يطلق عليها (كراندوه)، أم تلك العلاقات التي تنشأ بين بعض النساء وبعض الرجال بشكل سري ومحافظ، وكذلك للكشف عن طبيعة المجتمع البحريني بين خمسينياته وحتى الثمانينيات من القرن الماضي في روايتين هما (قندة وحوّام). وتأتي رواية (صولو) للروائية السعودية نور عبدالمجيد لتأخذ الطبيعة البشرية في مصر متكأ لها ومرجعية لسرد روايتها، فتناقش تركيب الشخصية وفق مجموعة من التراكمات الاجتماعية والنفسية، ومن خلال عدد من العائلات المصرية بشخصياتها النسوية والذكورية التي تباينت في بنائها وتكوينها النفسي والاجتماعي وتطلعاتها نحو الحياة وبناء المستقبل، بارزة طبيعة العلاقات الاجتماعية وتطلعات الأفراد في الأسرة الواحدة، لتعطي مسحًا عن حالة المجتمع المصري قبل أحداث وثورة 25 يناير وبعدها، منطلقة من منطقة ملاوي والقاهرة، وبين السفر والسياحة والبناء والنظرة إلى الصعود الاجتماعي والاقتصادي للفرد من جهة، والعائلة من جهة ثانية، والمساهمة في اقتصاد البلد أيضًا. ويكتب الفنان المسرحي البحريني خليفة العريفي رواية بعنوان (جمرة الروح) ليجعل مرجعيته الاجتماعية واقفة على المكان بين القرية والمدينة والفوارق بينهما في الوسط الثقافي والاجتماعي، ونظرة المجتمع لهما، وبين هذين المكانين تبرز سطلة الرجل وكيفية الاستحواذ على عاطفة المرأة بحكم موهبته الشعرية ومهنته الصحفية، فضلاً عن تلك التغيرات التي قد تطرأ على المرأ نتيجة موقف ما كما حدث لمبارك الرجل المثقف المائل إلى الدفاع عن هموم الناس وقضاياهم، فبعد خروجه من السجن وفقده كل شيء يلجأ إلى قراءة الكتب الدينية المتحدثة عن الديانات السماوية والوضعية، وينتهي به هذا إلى المكوث في أحد معابد الهند، ثم العودة إلى البحرين ليستقر به المقام في أحد المساجد يقرأ القرآن ليلاً ونهارًا مبتعدًا عن كل ماضيه وحاضره، وجاعلاً نفسه لاستقبال الآخرة. ليست الثقافة التي يتشربها الكاتب وحدها القادرة على أن تكون مرجعية للكاتب أو للنص إذا لم تكن هناك أرضية معرفية ووعي ثقافي بالنص الذي سيكتب من جهة، ورؤية القارئ الذي لا بد أن يُحترم في أثناء تلقيه النص من جهة ثانية، لذلك يتجه بعض الكتاب إلى الانغماس في واقعية المجتمع لنقل بعض التجارب والسلوكيات والتصرفات والمواقف، وكأنه بهذه الطريقة يقدم عملاً إبداعيًا يستفز عبره ذائقة القارئ، أو الناقد، أو الدارس دون أن يعلم أن مثل هذه الأعمال تضر بكاتبها وبالقارئ معًا؛ لأنها لا تقدم شيئًا فنيًا وجماليًا داخل النص المكتوب. ونحن هنا نعذر من يقدم على هكذا نوع من الكتابة، وبخاصة إذا كانت هي التجربة الأولى، وتجربة الكاتب أو الكاتبة لاتزال واقفة على عتباتها الأولى، وهذا على ما يبدو ما حدث إلى الكاتبة لميس فارس المرزوقي التي تملك ناصية الكتابة الإبداعية عامة، والسردية على وجه الخصوص، ولكن في روايتها (بين حين وآخر حدثتنا ميرة)، تناولت مسألة بسيطة جدًا في واقعنا الاجتماعي، وهي: مرحلة الدراسة والعلاقات الاجتماعية والإنسانية والتعليمية التي عادة تنشأ بين الطالبات من جهة، أو بين المعلمات من جهة ثانية، أو بين بعض الطالبات وبعض المعلمات معًا من جهة ثالثة، كما أن ما ينسج من علاقات يتصف بعضها بالرقي والتحضر، ويتصف بعضها الآخر بالتخلف أو النفور، بل تنبري حالة النسيان فيها. وفي الرواية نفسها تتحدث عن بعض المواقف والحالات التي وقعت إلى بعض الطالبات في المدرسة أو خارجها، بالإضافة إلى بعض المواقف الاجتماعية في بيئة الإنسان المحلية، وتكاد تكون جل أحداث الرواية جاءت بسبب العلاقة التي تكونت بين الراوية وميرة الشخصية الاخرى في النص، فكلما توطدت العلاقة الاجتماعية بينهما كلما أسهمت في البوح عن بعض المواقف، وتحديدًا تلك التي وقعت لميرة أو كانت هي سبب حدوثها، أو أحد أطرافها المباشرين أو غير المباشرين. وقد أشارت الراوية إلى طبيعة العلاقة بينهما ومدى انسجامها، حيث تقول: في كل يوم يمر منذ سنة وأكثر وميرة بطلة الأحداث في غرفتنا التي نتشارك فيها هموم العمل والحياة كما ساعات الفرح والنجاح، الأمر الذي جعل العلاقة بين الرواية والشخصية الأخرى وهي ميرة تتوطد وتنمو وتصبح كأنهما شخص اجتماعي واحد، هكذا تقول الراوية مرة أخرى: قالت لي يومًا حين عبرتُ عن إعجابي بخيالها الواسع الذي يخلق عوالم فريدة لا تشبه شيئًا نفكر فيه، وهي التي بشكل ما تراني نموذجًا تحب أن تتبادل معه الأمور ككل شخص يرى في الآخرين حياة أو جانبًا تمنى أن يكون ضمن واقعه،.... ماذا تفعل فتاة كان عليها أن تهرب من واقعها الذي ضنّ عليها بكل ما أرادت؟ لم يكن أمامي سوى خلق عالم آخر يناسبني .. عالم مختلف تتحقق فيه كل رغباتي الصغيرة. وقياسًا على الأحداث التي شكلت جسد الرواية فإنها تدخل في سياق واحد، وبمرجعية تكاد تكون واحدة وبسيطة، إذا فعلاً اعتبرنا ما طرحته الكاتبة جاء من خلال فهم لمرجيعة أسهمت في تشكل النص الروائي، وتجربة من الحياة والواقع المعيش، إذا تجاوزنا لنقول أنها مرجعية اجتماعية فإنها لا ترتقي إلى محاورة المجتمع ومناقشته، وكشف ما بداخله وبين دواخله، وأعتقد أن هذه الأحداث التي بسطتها الكاتبة على صفحات الرواية لو كانت مقدمة من كاتب السبعينيات أو قبل هذا أو تجاوزًا في بداية الثمانينيات، وبهذه الطريقة في الكتابة والسرد لكان الأمر مقبولاً، ولكن في العقد الثاني من الألفية الثالثة أي في القرن الواحد والعشرين فما جاء في الرواية لا يقنع القارئ، حيث ينبغي أن ينظر إلى النص الروائي على أنه عالم ثقافي ومعرفي وتأويلي لقضايا المجتمع والإنسان والوجود والكون. وابتعدت الروائية فتحية النمر عن حيثيات الواقع المعاش في صوره المسطحة ودخلت في بعد الجندر تجاه المرأة، ونظرة الرجل تجاهها، حيث إن من صور الواقع الاجتماعي الذي تفرضه العادات والأعراف الاجتماعية التي ألبست الرجل الشرقي عامة، والعربي على وجه الخصوص، ألبسته جلباب السيطرة والغطرسة، وأعطته زمام قيادة المجتع من دون أن تخضعه إلى دورة تدريبية في السلوك والتصرف والوقوف على حقوق المرأة واحترامها، كما أشارت روايتها السقوط إلى أعلى: .. شيء آخر جديد، ومنذ متى كنتُ آخذ برأيك؟ أنا من يحق له القرار، وأنتِ ليس لك سوى التنفيذ. وهذه مرجعية اجتماعية اتكأت عليها الكاتبة ليس لأنها تشاهد في واقعها الاجتماعي، الذي تناولت عبره العلاقات بين الصديقات أو العلاقة غير المتوازنة بين الأزواج، وفي الوقت نفسه كان لتخصص الكاتبة في المجال الفلسفي والنفسي دور في بعض أحداث الرواية وإن لم تكن مرجعية أساسية لنصها الروائي، وكان النص يحضر فيه بعض الأقوال المأثورة من الفلاسفة، أو من التراث، مثل: (الممنوع مرغوب والمتاح غير مطلوب)، أو (القلوب أجناد مجندة ما تآلف منها اتفق، وما تنافر منها اختلف)، فضلاً عن بعض الأبيات الشعرية العربية، مثل: (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ..) أو (أمر على الديار ديار ليلى ..)، وهذه ليست مرجعيات بقدر ما هي جاءت ضمن سياق الحدث لا غير. وهناك من يتكئ على مرجعية اجتماعية ناتجة من موروث اجتماعي وتاريخي، كما في رواية محمود الرحبي (درب المسحورة أوراق هاربة من سيرة فتاة عمانية)، حيث ما يشاع في عمان السحر بمناطق معينة، إلا أن الكاتب تفنن في صياغة الرواية وفق مرجعية اجتماعية تمثلت في تلبس الإنسان بالسحر غير أن هذا السحر لم يكن توظيفه توظيفًا آليًا، بقدر ما هو توظيف يكشف الحالة الاجتماعية وتشبث الإنسان العماني بهذا الموروث الذي لا بد من مناقشته وتفكيكه وتحليله، ومدى اهتمام الإنسان حاليًا بمثل هذه الأمور التي لا تقف عند سلطنة عمان بقدر ما هي ظاهرة منتشرة في عدد من الأمكنة الجغرافية العربية وغير العربية.
مشاركة :