يتبع.. تطلب نقد العقل عبر التحليل والتفسير والتأويل والجدل، والعمل عبر العقل التجريبي، والمعرفة العلمية، وقد برزت بعض الملامح، مثل: وجود الصالونات الأدبية التي كان لها الدور الفعال في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي، وكذلك سعى رجالات هذا العصر إلى نشر المعرفة وتحفيز المجتمع إلى التغيير المستمر، ومن المفكرين الذين ينتمون إلى هذا العصر: فولتير، جان جاك روسو وكتابه المهم (العقد الاجتماعي)، ديفيد هيوم، إمانويل كانت، فرانسيس بيكون، إسحاق نيوتن. أما عصر الحداثة فهي جاءت باعتبارها حركة أو عصرا بعد عصر الأنوار أو التنوير الذي هو إرهاصات للحداثة التي تعني في مجملها تجاوز الماضي والعمل على التجديد والتطوير والإبداع في مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأدبية والفنية ولتقنية، وقد نادت الحداثة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المتساوية بين أفراد المجتمع، مما يعني رفض الطبقية، كما أسهمت في ظهور النظريات المعنية بالسياسة والاقتصاد كالرأسمالية والماركسية، بل كانت نظرية داروين من أبرز ملامح الحداثة في المجتمعات الغربية. وعبر دعوة هذا العصر إلى الديمقراطية وحرية الفرد والمجتمع، ظهرت فكرة تنادي بعدم تدخل الدين في شؤون الحياة العامة بعد ما برزت حالة الإلحاد نتيجة سلوك رجال الدين وتطلعاتهم التي تعيق المجتمع وتقف حاجزاً في تطوره، وبما أن الحداثة تنظر إلى جوانب عدة في المجتمع والحياة والإنسان، فهي حداثة مجتمع في بناه المختلفة من جهة، وحداثة وعي بطبيعة المجتمع وتاريخه وتطلعاته، ومن أبرز ما ساهموا في هذه العصرنة فرديناندتونيز، دوركايم، ماكس وبير، بودلير، فضلا عن المفكرين والعلماء الذي كان لهم دور في عصر التنوير أيضا. ولكن الرغبة المستمرة في التطوير والتحديث ونقد ما قبل من فترات وعصور وبنى، إذ ظهرت حركة ما بعد الحداثة التي عملت على نقد الحداثة ومبادئها، وبعيدا أيضا عن تأريخ ما بعد الحداثة وإن كان مايكل كولر يرى أن عقد السبعينيات من القرن العشرين هو التشكل لهذه المرحلة، إلا أن ما يهمنا ذاك الاهتمام بالفنون المختلفة، وبالأخص فن العمارة والفنون البصرية، والقبوم بعد الترابط من ناحية، والقيام على الثقافات المتقابلة من ناحية أخرى، والعمل في المنجز الإنساني من منطلقات أو بنيات مفتوحة غير متصلة ما يشير ذلك إيهاب حسن الذي أسهم وغيره من المفكرين من خلال أبحاثهم في دراسة هذا المفهوم وكيفية ترجمته واقعاً، مثل: بودريلاد، وجوزيف هودنوت. وأيا كانت التسميات والمصطلحات فيما يتعلق بالحداثة أو ما بعد الحداثة، فإن الهم لمن عمل على إبراز هذه الفترات التاريخية المهمة، هو المجتمع والحياة والفرد والتطلعات المحتلفة، لذلك يقول بول بوفيه بأن: الفكر الحداثي يتسم بالنزاهة والروح النقدية ويقدم إسهاماً علمياً حقيقياً كما فعل الاستشراق، بل يراهن على وجود رؤية جديدة للعالم وما حول الإنسان والكائنات، وهذا ما ينبغي التأمل كيفية إيجاد منظور جديد لنسج العلاقة بين هذا العالم والكتابة الإبداعية، وهو ما نتطلع إليه في الرواية الخليجية التي لا يكون دورها نقل مباشر لحيثيات المجتمع، وإنما الرؤية الحضارية والثقافة والجمالية التي ينبغي أن تبرز في الرواية تحليلاً وتفكيكاً وتأويلاً وبأسلوب سردي يجذب القارئ لا ينفره، لذلك نقول إن الكتابة الروائية ليست سهلة وليست مجرد جرة قلم أو الضغط على أزرار مفاتيح جهاز الحاسوب. ومن تلك الأمور التي ارتكزت عليها حركة ما بعد الحداثة، وأثرت في كل المشروعات الثقافية والحضارية بصورة عامة، والأدب بصورة خاصة، هي السعي إلى تحطيم السلطة الفكرية القاهرة إلى الإنسان فكرياً بحكم صفة الانغلاق التي تتصف بها الحداثة - بحسب ما تدعي ما بعد الحداثة - وكذلك شكل تلك الإيديولوجيات التي كانت الحداثة تتكئ عليها، والعمل على إلغاء الذات المرتبطة بمفاهيم السيطرة والأنا المتأصلة في الوجدان، وعدم احتكار الحقيقة، والعمل على اتساع رقعة التاريخ والزمن والجغرافيا من حيث التناول والتعامل مع هذه العناصر الحياتية المهمة، والبحث عن تلك الأصوات المهمشة والمقصية، مما جعل النص الروائي نصاً ثقافياً فكرياً من جهة، ونصاً يعتمد على المرجيعيات المختلفة والوثائق المتعددة والمصادر المختلفة. وكما اتكأت الرواية الأجنبية وكذلك العربية على مرجعيات مختلفة، فإن الرواية الخليجية كانت لها مرجعيات، لذلك علينا أن نقف متأملين في دلالة المرجعية، وقبل هذا نشير إلى أن المرجعية هي كيانات معرفية مؤطرة تمنح الخطاب انتسابه إلى معرفة، وتخصص موقعه فيها، وقدرته على توظيفها، وبهذا نتساءل هل للمرجعية وظيفة في النص الروائي؟ وهل هي وظيفة - إذا كانت موجودة - استمرارية أو بنيوية؟ كما هل هناك شروط معينة أو محددة لهذه المرجعية الثقافية أو تلك؟ وكيف يمكن للكاتب التفريق بين مرجعية هو يتكئ عليها أو يستمد منها، وبين مرجعية تتكئ عليها شخصيات الرواية؟ وبما أن حقول المعرفة كثيرة، والرواية على استعداد تام لاحتضان هذه الحقول، والتفاعل معها، فإن هذا يتطلب جهوداً مضنية من قبل المبدع لكي يكون نصه الإبداعي على قدر واع لهذا الاحتضان، وإلى أهمية التفاعل، وقد أشار هنا شعيب حليفي بأن الرواية هي: مرآة صوفية للمعرفة والإضاءة والتفكيك والمتعة، من خلال إمكاناتها التخييلية واللغوية من جهة، وقدرتها من جهة أخرى على الانفتاح على سجلات وعلامات وحقول من أجل تشكيل الرومانيسك، من الذات والمجتمع والتاريخ عبر توظيف بنيات وأساليب ولغات من خطابات وأشكال أخرى. وهذا أمر يكون محل جدل بين المتلقين تجاه المرجعيات وأهميتها في النص الروائي، غير أن المتابع إلى الأعمال الروائية العالمية لبعض الكتاب يجد المرجعية ماثلة ليس في السيطرة والاستحواذ على النص، وإنما كاشفة الأبعاد التي ينطلق منها النص والتوجهات التي يطرحها كاتب النص، والأدوات الفارضة من النص على المتلقي، وهنا يأتي دور هذا المتلقي وما ينبغي عليه من امتلاك الأدوات المعينة على تلقي النص وفهمه واستنطاق المرجعيات المتعمدة، حيث تكون أهمية المرجعية من كونها تأتي في سياق روائي مفارق، يتميز بهيمنة جماليات الرواية الجديدة التي تحررت من التصوير المرجعي للواقع.
مشاركة :