في مراجعته الدورية لأسعار الفائدة، أبقى المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي «البنك المركزي» مستوى الاقتراض بعد عشر زيادات متتالية. إنها خطوة لافتة وكانت منتظرة وذلك مع تحسن أداء الاقتصاد الأميركي عموماً، وتراجع ضربات التضخم في الساحة المحلية، وإن بقيت أسعار المستهلك مرتفعة كثيراً عن الحد الأقصى الذي وضعته الإدارة الأميركية عند 2%. وهذا الحد في الواقع يسري على كل الاقتصادات المتقدمة، التي تواجه واحداً من أصعب الامتحانات على صعيد التضخم. وتمكن الاقتصاد الأميركي من خفض التضخم من 6.4% في يناير الماضي إلى 4% في الوقت الراهن. وهذا يعد قفزة نوعية في الحراك الهادف للسيطرة على هذه «الآفة» الاقتصادية التي تأتي بين مرحلة وأخرى. لكن الأمر ليس براقاً على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، وتحديداً على الساحة الأوروبية، التي تمضي قدماً في التشديد النقدي، على الرغم من أن البنك المركزي الأوروبي كان في بداية الموجة التضخمية الراهنة الأكثر رفضاً بين البنوك المركزية الرئيسية لرفع الفائدة. غير أن الواقع فرض معاييره وأقدم «الأوروبي» على رفع متتالٍ لتكاليف الاقتراض، لتصل حالياً إلى أعلى مستوى لها من 22 عاماً عند 3.5%. الباب سيبقى مفتوحاً للزيادات في المراجعات المقبلة، لماذا؟ لأن التضخم وصل إلى 6.1% في منطقة اليورو التي تضم 22 دولة. صحيح أن مستوى أسعار المستهلكين تراجع في الأشهر الماضية، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يزال (كما على الساحة الأميركية) بعيداً عن الحد المستهدف. ولا شك في أن المشرعين الأوروبيين يعلمون بأن عوامل ارتفاع التضخم لا تزال موجودة، وربما ستضرب بقوة أكثر في فضل الشتاء المقبل من جهة أسعار الطاقة. فهذه الأخيرة تسببت منذ نشوب الحرب في أوكرانيا بالضغط على الدول التي تستورد الطاقة حول العالم، ولاسيما تلك التي كانت تعتمد بشكل أساسي على الواردات من روسيا. لا أحد يتحدث حالياً بصوت عالٍ، سواء على الساحة الأميركية أو الأوروبية عن النمو، لكن الواضح تماماً أن النمو الأميركي بدأ يظهر في أكثر من قطاع وعلى نطاق يتسع، في حين أنه في منطقة اليورو يمر بحالة من الركود، أعمق من تلك التي يمر بها النمو في المملكة المتحدة. وفي كل الأحوال، لا يمكن الحديث حالياً عن بدء تراخي دورة التشديد النقدي على الساحة الغربية عموماً. فكل البنوك المركزية أبقت الأبواب مشرعة على مراجعة مستويات الفائدة في المرحلة المقبلة. صحيح أن إبقاء «الفيدرالي الأميركي» على المستوى الراهن للفائدة عند 5% يمثل أملاً جديداً على صعيد التيسير النقدي لاحقاً، وبالتالي رفع معدلات النمو، لكن الصحيح أيضاً أن المشرعين الأميركيين لا يستطيعون «المقامرة» أو «المغامرة» من جهة وضعية أسعار المستهلكين، خصوصاً في ظل معركة انتخابية رئاسية بدأت رحاها تدور مبكراً بالفعل. لكن في النهاية لا يمكن إزالة الأثر النفسي الإيجابي في ميدان الأسواق، على قرار تجميد الفائدة عند حدودها الراهنة.
مشاركة :