روى ابن رشيق القيرواني في كتابه الشهير (العمدة في محاسن الشعر وآدابه) حادثة تُدلل على حجم التخوف من مُصارحة الشعراء بأخطائهم وعيوب قصائدهم، فهي في نظر البعض مُغامرة إن سلم صاحبها من هجاء الشعراء أصحاب "الألسنة الحِداد" فلن يسلم من اتهامه بالحسد والرغبة في التسلق على أكتاف المبدعين. وفي الرواية أن أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت 209ه) سُئل "أيُ الرجلين أشعر: أبو نواس أم ابن أبي عُيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله! كأن هذا ما تبيّن لكّ! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا". في هذه الحادثة يمتنع العالم باللغة والأدب عن توضيح رأيه الصريح حول أفضلية أحد الشاعرين لأنهم أحياء يُرزقون، مع أن إجابته توحي –وربما تؤكد-على امتلاكه لرأي حاسم حول أفضلية أحدهما. وبرغم التخوف من مواجهة الشعراء بأخطائهم وقِلة عدد النقاد، نظرًا لصعوبة ممارسة النقد، لا يكاد يخلو مؤلَّف من مؤلفات النقد العربي القديم والحديث من نصائح كثيرة يقدمها النقاد للشعراء كافة، وهي نصائح تهدف لتوجيه الشاعر ورفع مستوى قصيدته ومساعدته على تلافي الأخطاء التي يكثر وقوع الشعراء فيها، لكن نسبة غير قليلة من الشعراء لا تأخذ ذلك النقد على محمل الجد، أو يكون لها موقف سلبي رافض له. فالناقد كثيرًا ما يقع بين تهمتي الحقد والحسد للشعراء، وقد أورد ابن المعتز في (طبقات الشعراء) قصة طريفة لرفض شاعر يُدعى رَوْح لنصيحة أحدهم نصحه فيها بطريقة ودّية ألا يُقدِم على عرض قصيدته الضعيفة على أحد الأمراء، لكن الشاعر يركب رأسه بعد اتهام الناصح بالحسد ويقوم بمدح الأمير بقصيدته السيئة التي لا يجني من ورائها خيرًا. لم يختلف الأمر كثيرًا في عصرنا هذا، فحين يُنصح شاعر بعد الإقدام على المشاركة في مسابقة شعرية بأبيات أو بقصيدة يُرى بأنها رديئة أو متواضعة المستوى، أو لا تخرج عن نطاق المألوف الذي لا يعجز عنه أقل الشعراء موهبة، لا بُد أن يتهم ناصحه بالحسد أو يتبرّع بشرح جوانب الإبداع التي يزعم بأنها لا تُدرك بسهولة في قصيدته. حتى عندما يتواضع بالجلوس أمام مُحكّمين موثوقين رغبةً في الفوز أو يضع إنتاجه بين أيديهم فإنه سيرفض نقدهم ويتلقاه تلقياً سلبياً حين لا يتوافق مع هواه. أخيرًا يقول محمد الذرعي: أسهرتني والمسا روّح ولا جابك في ليلةٍ شالت البرد ب هبايبها كن الدقايق تقول بحزّة غيابك: يا بِرْد وجه الليالي وأنت غايبها
مشاركة :