التنافس بين الأشخاص في أي ميدانٍ من ميادين الإبداع لا بُد وأن ينشأ عنه العديد من الأمور الجيدة والسيئة التي من بينها (الحسد)، فكل من ينعَم بمميزات التفوق في مجال إبداعه لن يسلم من حسد بعض المحيطين به مصداقًا للقول المأثور: "كُل ذي نعمة محسود"، ولا بُد أن نتذكر في ميدان الشعر مُعاناة شاعر العربية الكبير المتنبي (ت 354ه) مع حساده ومُبالغته الجميلة في وصف تلك المعاناة بقوله: ماذا لقيتُ من الدُنيا وأعجبه أني بما أنا شاكٍ منهُ محسودُ كثيراً ما يتولد الحسد بين الشعراء أنفسهم بفعل عوامل مُتنوعة من أبرزها الرغبة في الاستحواذ على التميز والبقاء في دائرة الضوء، ومن أشهر النماذج على هذا الأمر ما حدث بين المتنبي وأبي فراس الحمداني (ت 357ه) قديمًا، وما جرى بين محمود عباس العقاد (ت 1383ه) والشاعر أحمد شوقي (ت 1351ه) في العصر الحديث، إذ يرى الأستاذ جهاد فاضل أن النقد القاسي الذي وجّهه العقاد لأحمد شوقي لا يعود لمخالفة شعر الأخير للمعايير النقدية التي يستخدمها الأول، وإنما يعود في حقيقته لحسد العقاد الذي "كان يطمع في زعامة الشعر المصري والعربي لعهده"، ويُدلل على ذلك بأن العقاد أصدر مجموعتين شعريتين تزامن صدروهما مع نفي شوقي لأسبانيا أثناء الحرب الأولى، وذكر أن عودته من منفاه بعد الحرب كانت مفاجأةً غير سارة صدعت آمال العقاد في الزعامة الشعرية ودفعته لإصدار أحكام نقدية جائرة ضده..! إذا كان الطموح للتفوق والزعامة الشعرية هو الدافع الخفي لحسد العقاد – بحسب تحليل جهاد فاضل- وكثير من الشعراء غيره، فإن هناك دوافع أخرى أكثر وضوحاً وإيجابية تجعل الشاعر يحسد غيره من الشعراء، فقد تحدث الشريف المرتضى بإعجاب في (الأمالي) عن شكلٍ من أشكال الحسد (المحمود) يتضح بصورة جليّة في سيرة الشاعر الفرزدق (ت 110ه)، إذ يقول المرتضى بعد إيراد العديد من الروايات التي تتحدث عن حسد الفرزدق للشعراء على أبيات أو قصائد أبدعوها ونالت استحسانه: "وحسدُ الفرزدق على الشعر وإعجابه بجيده من أدل دليل على حسن نقده له وقوة بصيرته فيه، وأنه كان يطرَبُ للجيّد منه فضلَ طرب، ويعجب منه فضل عجب. ويدلّ أيضاً على إنصافه فيه، وأنه مستقلٌ للكثير الصادر من جهته، فإن كثيرًا من الناس قد يبلغ بهم الهوى في الإعجاب والاستحسان لما يظهر منهم في شعر أو فضل إلى أن يعموا عن محاسن غيرهم فيستقلّوا منهم الكثير، ويستصغروا الكبير". إذًا قد يكون الحسد مقبولاً عندما يقترن بالإنصاف والإعجاب بإنتاج الآخرين، وعندما يشجع ويدفع الشاعر لمحاولة رفع مستوى قصيدته بتجويدها وتعميق معانيها للوصول لذروة الإبداع، ومن المؤسف أن نُصرّح بأن هذا الشكل من الحسد أو (الغبطة) نادر جدًا بين الشعراء مقارنةً بالحسد بمدلوله السلبي.
مشاركة :