يبدو أن التفاؤل الذي ساد في الأسواق حول العالم من إمكانية توقف البنوك المركزية الرئيسية عن سياسة التشديد النقدي، يتراجع شيئاً فشيئاً. وهذا يعزز التوقعات بأن النمو على الساحة الدولية، سيشهد مزيداً من الضغوط في العام المقبل. فحتى الحديث عن أن النمو العالمي سيصل إلى 3%، بات يخبو، وهناك مراجعات عديدة للتعديل نحو الأسفل وليس الأعلى خلال الأسابيع المتبقية من العام الجاري. الضغوط على الاقتصاد العالمي متعددة، بما في ذلك التطورات الراهنة التي تدفع إلى تحويله لكتل متنافسة. رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد أعلنت صراحة أن كل كتلة تحاول أن تجذب أكبر عدد ممكن من دول العالم الأخرى إلى مصالحها الاستراتيجية. وهذا ما يحدث بالفعل. لكن الضغوط الآنية المتفاعلة جداً، تأتي من عوامل أخرى عدة، على رأسها ابتعاد إمكانية حدود تيسير نقدي في العام المقبل على الأقل، بل تدل المؤشرات إلى أن هذا «التيسير» قد لا يحدث حتى ما بعد منتصف العقد الحالي، وربما أبعد من ذلك، نتيجة امتداد زمن الموجة التضخمية التي تضرب العالم أجمع. فعلى الساحة الأميركية مثلاً، يبدو واضحاً أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي «البنك المركزي» يتجه لرفع جديد للفائدة، بعد أن صدم مؤشر التضخم الأميركي الساحة بارتفاعه إلى 3.7%. في حين أن الولايات المتحدة كانت من أكثر البلدان الغربية سرعة في خفض أسعار المستهلكين خلال الأشهر الماضية. والأمر كذلك على صعيد «المركزي الأوروبي» الذي أوصل الفائدة أخيراً إلى 4.5%، بعد توقعات بتثبيتها. ولا شك في أن التأثيرات الآتية من الحرب الدائرة في أوكرانيا ستظل حاضرة على الساحة لفترة طويلة، حتى لو انتهت هذه الحرب غداً. فتبعاتها على الأسواق، ولاسيما في ميادين الطاقة ستبقى ضاغطة لفترة من الزمن، ناهيك عن الإمدادات الأخرى التي تأثرت بصورة خطيرة من جرائها في الأشهر الماضية ولا تزال. في هذه الأثناء تبرز مسألة قديمة متجددة تتعلق بالارتفاعات المتواصلة للدين العام التي تضغط بقوة على الميزانيات العامة في البلدان المتقدمة والناشئة، بالإضافة طبعاً إلى البلدان التي توصف بالأشد فقراً. ووفق صندوق النقد الدولي، تضاعف هذا الدين عالمياً 3 مرات منذ سبعينيات القرن الماضي. وهناك دول تخلفت بالفعل عن السداد، وأخرى توشك على التخلف في الفترة القصيرة المقبلة. المشهد الاقتصادي العالمي ليس براقاً، أو ليس في طور «الانسلاخ» عن المرحلة الصعبة التي لا يزال يمر بها بأشكال مختلفة. فالضغوط ستتواصل، بينما يحتاج فيها هذا الاقتصاد لضمانات على صعيد النمو تعوض الخسائر التي مني بها من جراء جائحة «كورونا» وتأثيراتها السلبية التي لا تزال الحكومات تعاني منها، بما في ذلك اضطرار غالبية الحكومات للاقتراض من أجل مواجهتها. والنمو المأمول لا يبدو أنه سيرتفع بما يكفي في السنوات القليلة المقبلة. فحتى الاقتصادات التي كانت تعد محركاً أساسياً للنمو العالمي، تشهد حالياً تراجعاً في وتيرته.
مشاركة :