كانت دوافع نظم الشعر لدى كثير من الشعراء العرب القدامى محدودة جدًا ومختلفة بعض الشيء عن دوافع شعراء العصر الحديث، ولم يكن الشاعر يلجأ إلى نظم الأشعار إلا استجابة لدوافع داخلية تدفعه للتنفيس عن بعض مشاعره، أو للتعبير عن حاجاته الماسة وآرائه ومواقفه من بعض ما يدور حوله من صراعات وأحداث، وكان ذلك بأبيات قليلة فقط. هذا الكلام ليس قاعدة ثابتة يسير على ضوئها جميع الشعراء، ففي كل عصر يولد شعراء يستعجلون استدعاء القصيدة ويسعون لتكثير عدد قصائدهم حتى لو لم يكن هناك أدنى فائدة من ذلك، وقد وصل إلينا العديد من الدواوين الضخمة لشعراء عاشوا في العصور القديمة ونظموا في كل شاردةٍ وواردة. في عصرنا الحاضر نستطيع مُلاحظة تزايد أعداد الشعراء الذين يُسرفون في النظم ويجهدون أنفسهم بتكلف كتابة أبيات قليلة تكفل لهم التواصل اليومي مع المتابعين عبر وسائل التواصل، ويأتي هذا الإسراف من حرص الشاعر على لفت الانتباه ومن رغبته في المحافظة على متابعيه السابقين، وقد قدّم المظفر العلوي (ت 656ه) في كتابه (نضرة الإغريض في نُصرة القريض) نصيحة للشعراء الذين يُجهدون أنفسهم ويرغمونها على النظم من دون وعي بسلبية هذا الأمر وما قد يؤدي إليه من فقدان فرصة إبداع ما هو أفضل عند تأجيل النظم لوقت أنسب، ولا شك بأن فئة الشعراء التي وجّه إليها نصيحته لا تختلف كثيرًا عن الشعراء المشار إليهم قبل قليل. يقول العلوي في نصيحته: "وينبغي للشاعر أنّه إذا رأى الشعر قد اعتاص عليه ومنعَ جانبهُ منه أن يتركه في تلك الحال ولا يكدّ قريحته فيه، ولا يكلف خاطره اقتحام مهاويه. فقلما يجيء الشعر على تلك الحال كما يُؤثر الشاعر، ولعل في تركه له حدوث معنى لم يكن في الخاطر من قبلُ، وقد وقع لجماعةٍ من الشعراء مثل ذلك كثيرًا". يخسر شعراء "كدّ القريحة" من الذين يستعجلون الكتابة والنشر فرصة ثمينة وهي فرصة إمكانية عودة الفكرة التي يعتاص خروجها في صورة أبهى وأجمل بعد مرور فترة من الزمن وتوفر بيئة أفضل، وفي بعض الأحيان تكون الفكرة التي ترد إلى ذهن الشاعر جميلة ومميزة، فينتج عن استعجاله في صياغتها، وعدم استعداده للصبر على احتضانها، التضحية بقدرتها على النمو والامتداد لتصبح قصيدة متكاملة البناء وأكثر جاذبية وتأثيرًا في المتلقين. أخيرًا يقول الشاعر سالم حمد الملعبي: علّمني أجوعه وعلّمني أظماه وعلّمته إنه نور عيني وماها وعلمني إن الليل موحش بلياه وعلّمته إن الصبح فيه يتباهى ويومه درى إنه لو رحل ما أقدر أنساه دوّر على فرصة رحيل ولقاها
مشاركة :